12 March, 2009

عزازيل

مجموعة مخطوطات نادرة عبارة عن مذكّرات الراهب هيبا، والذي عاش حياته في أواخر القرن الثالث، وأوائل القرن الرابع، تنقّل بين عدّة بلدان ومدن، القدس وأنطاكية والاسكندرية، ولد ونشأ في الصعيد لأب وثني وأم مسيحية، يشاهد قتل أبيه على يد جماعة من أهل أمه لتتزوج في النهاية من قريبها، وترسله لعمّه لينشأ لديه..

هيبا .. ليس اسمه الحقيقي، إنّما هو المقطع الأول من اسم أستاذة الرياضيات "هيباتيا" حضر لها في الاسكندرية محاضرة، والتي قُتِلَت أيضًا على يد البابا كيرلس بحجة أنها ساحرة مشعوذة مخرفة..

هيبا .. يتحدث عن نفسه وكأنما دخل روحي ليكتبني، وكأنما سكنني ففاضت مشاعري على أوراق مذكراته، التصقت بي رائحة البيوت التي زارها، شعرت بآلامه وكأنه أنا.. آلامًا نفسية - فكرية في أغلبها..

أحببتُ نسطور، الراهب الآخر الذي التقاه هيبا وأحبّه أيضًا، ألم أقل لكم أنّنا أصبحنا روحًا واحدة؟

لماذا انطفأ كلّ شيء؟ نور الإيمان الذي كان يضيء باطني، شموع السكينة التي طالما آنست وحدتي، الاطمئنان إلى جدران هذه الصومعة الحانية .. حتى شمس النهار، صرت أراها اليوم مطفأة وموحشة

حتى في أوهامه، وأحلامه المجنونة .. يؤكد لي أنّي لست غريبة طالما هو موجود

ورحت أتوهم بعدما أغمضت عيني، أني صرت والشجرة كيانًا واحدًا. أحسست بروحي تنسحب من ضلوعي، فتتخلل جذع الشجرة، ثم تغوص في جذورها العميقة، وتتوغل في قلب فروعها العالية. كان كياني يتمايل مع أوراقها، ويتساقط بعضي مع سقوط الأوراق من أغصانها.
تمنيت لو أصير شجرة مثل هذه، للأبد، شجرة وارفة الظلال وغير مثمرة، فلا ترمى بالحجارة وإنما تهواها القلوب لظلّها.

ويتحدث عن بعض الأشياء التي نمارسها بحكم العادة، بأسلوب مختلف، لا يحب العبور دون أن يترك أثرًا في الأشياء، أو يترك الأشياء لتطبع أثرها عليه إن لم يجد ما يمنح..

النوم هبة إلهية، لولاها لاجتاح العالم الجنون. كل ما في الكون ينام، ويصحو وينام. إلا آثامنا وذكرياتنا التي لم تنم قط، ولن تهدأ أبدًا ..

النوم رحمة سماوية..

نسيتَ يا هيبا، أن تقول أنّ أفكارنا أيضا لا تنام، وأنها تقض مضاجعنا دون استئذان أو حياء، وأنّنا مهما حاولنا إخمادها فإنها لا ترعوي.

الكتابة تثير في القلب كوامن العواصف ومكامن الذكريات، وتهيّج علينا فظائع الوقائع. في فترات بعيدة من حياتي، ومتباعدة، كان إيماني يؤنسني، ويملأ وجودي غبطة. واليوم تحيط بي الغيوم من كل جانب، وتهبّ في باطني الأعاصير حتى تكاد تقتلعني من الكون كلّه. كيف سينتهي الحال بنسطور بعد كل ما جرى معه؟ وإلى أين تراني أذهب بعد انتهاء هذا التدوين؟ وهل سأرى ثانية مرتا التي راحت، فظننتها أراحت، ثم عرفت بعد رحيلها لوعة القلق وعصف الاشتياق؟


لله درّه، الشاعر الذي كنتُ - في فترات بعيدة من حياتي- أتغنّى ببيتٍ قاله: الله أسعدني بظلّ عقيدتي، هل يستطيع الخلق أن يشقوني؟ كنتُ أقولها فأشعر أن الله قد طرح بي نورًا ورضاء ذاتيًا بيمناه، ومنحني شخصيًا سعادةً لا يمنحها لغيري، وكأنه يقول لي: لن أخيّب ظنّك بي.. لكن.. ومتى حلّت لكن وجب نسيان ما سبقها، وتوقّع الشرّ فيما بعدها .. كيف استطاع البشر أن يشقوني؟ كيف استطاعت الحياة بتركيبتها المعقّدة، وزمني الذي جئت فيه مرغمة على أن تنسيني سعادتي؟ لقد نسيتُ طعمها ولم تعد تجدي أبيات الشّعر في زماننا العجوز العقيم..


لطالما أحببتُ الأشياء التي تتم، فقط، في داخلي. يريحني أن أنسج الوقائع في خيالي، وأحيا تفاصيلها حينا من الدهر، ثم أنهيها وقتما أشاء. تلك كانت طريقتي التي تعصمني من ارتكاب الخطايا، فأظلّ آمنًا

قالت هيباتيا:

والفهم أيها الأحبة، وإن كان فعلا عقليًا، إلا أنه فعل روحي أيضًا.. فالحقائق التي نصل إليها بالمنطق والرياضيات إن لم نستشعرها بأرواحنا، فسوف تظل حقائق باردة، أو نظل نحن قاصرين عن إدراك روعة إدراكنا لها

وبعد أن ماتت هيباتيا، يتسائل هيبا عن الموت، الحقيقة الوحيدة التي نراها جميعًا ولا يمكن أن نتذوق طعمها إلا مرة واحدة فقط، هي الأولى والأخيرة ..

من أين يأتي الدود بعد الموت؟ هل هو كامن فينا بحيث لا يظهر إلا بعد موتنا؟ أهو كامن أيضًا في الفواكه الرطبة وفي الجبن القديم وفي الأجسام الحية ! ينتظر موت الكائن وفساد جسمه كي يحيا على الموت، ثم يموت. يقال أن هذا الدود لا يأكل رفات القديسين والشهداء! فهل هي معجزة لهم، أم هي معجزة للدود الذي يفرّق بين الأجسام، المقدسة منها وغير المقدسة؟ على أن الدود فيما أظن لا يفرق، ولا يعرف أجساد القديسين من غيرهم، وإلا فهو لا يتطرق أيضًا لأجسام المومياوات المحفوظة ببلادنا في التوابيت العتيقة.. لماذا حفظ المصريون القدماء أجسام موتاهم بسحر أو علم، يمنع عنها الدود؟ أم ترى أن أجسادهم كانت هي الأخرى مقدسة!

ويحكي عن أحد الشماسين الذين كانوا يقومون بمساعدته في الدير، وكيف كان يحكي له قصّة نشأته لقيطًا، وعدم معرفته لأمه وأبيه بمنتهى البساطة، ويتساءل: لماذا يخجل من أخطاء غيره؟

"وكلّ إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونحمل له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا. اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا.مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً" القرآن

لا أذكر متى تعلّمتُ ألا أخجل من أخطاء غيري، وأن أعتبر نفسي مسؤولة فقط عن أخطائي

تعجبتُ من البساطة التي قصّ بها حكايته، من دون أي أسف أو خجل، كأنه يقص واقعة عادية، من شأنها أن تحدث لأي شخص.. كان ذلك هو الدرس الأول الذي تعلمته في هذا الدير، وأفادني كثيرًا على نحو خفيّ، لا ينبغي أن نخجل من أمر فرض علينا، مهما كان، مادمنا لم نقترفه. ساعدني ذلك كثيرًا، على نسيان ما فعلته أمي في زمن طفولتي، وعلى تناسي ما فعلته، ومالم أفعله بسبب خوفي وقلة استطاعتي

ماذا عنّي؟ تعلمتُ أن أتصالح مع جسدي وأحبّ أنوثتي، وأتقبّل أشياء لم أكتبها على نفسي ولا قلبي.. كما تعلّم هيبا أن يتصالح مع ذاته..

تعلّمتُ مالا يُحكى

راح نسطور يعيد عليّ، ماكنت أعرفه من اعتقاده بأنّه لا يجوز تسمية العذراء مريم ثيوتوكوس، فهي امرأة قديسة، وليست أمًا للإله. ولا يجوز لنا الاعتقاد بأن الله كان طفلا يخرج من بطن أمه بالمخاض، ويبول في فراشه فيحتاج للقماط، ويجوع فيصرخ طالبًا ثدي والدته.. فال: هل يعقل أن الله كان يرضع من ثدي العذراء، ويكبر يوما بعد يوم، فيكون عمره شهرين ثم ثلاثة أشهر ثم أربعة! الربّ كامل، كما هو مكتوب، فكيف له أن يتخذ ولدًا، سبحانه، ومريم العذراء إنسانة أنجبت من رحمها الطاهر، بمعجزة إلهية، وصار ابنها بعد ذلك مجلّى للإله ومخلّصًا للإنسان.. صار كمثل كوّة ظهرت لنا أنوار الله من خلالها، أو هو مثل خاتم ظهر عليه النقش الإلهيّ، وظهور الشمس من كوّة لا يجعل الكوّة شمسًا، كما أن ظهور النقش على خاتم، لا يجعل من الخاتم نقشًا.. يا هيبا، لقد جنّ هؤلاء تمامًا، وجعلوا الله واحدًا من ثلاثة!

ويقول وهو عائد من أنطاكية:

وأنا ترعبني فكرة الرجوع إلى بلادي، ولو في مهمة قصيرة. لكني في الحقيقة، كنت مرعوبًا من العودة إلى الاسكندرية تحديدًا، فرجوع مثلي إليها محفوف بالمخاطر.. فالذي يخرج من الاسكندرية مغاضبًا أو مغضوبًا عليه، لا ينبغي له العودة إليها. تجارب الأيام دلت على ذلك، وأكّدته!

وأخيرًا ..

للمحبة في النفس أحوال شداد، وأهوال لا قِبَلَ لي بها، ولا صبر لي عليها ولا احتمال! وكيف لإنسان أن يحتمل تقلّب القلب ما بين أودية الجحيم اللاهبة وروض الجنات العطرة.. أيّ قلب ذاك الذي لن يذوب، إذا توالت عليه نسمات الوله الفوّاحة، ثم رياح الشوق اللافحة، ثم أريج الأزهار، ثم فيح النار، ثم أرق الليل وقلق النهار. ماذا أفعل مع محبتي بعدما هبّ إعصارها، فعصف بي من حيث لم أتوقع؟ هل أنا فرح بحبّ مرتا أم أنني أخشاه؟ سيقولون أنني غررت بها، وسيقولون بل هي غررت به! لن أنجو من هذا الحبّ الذي قدحت مرتا زناده بكلمة واحدة، فصار عشقًا.. وأنا لاخبرة لي بارتياد بلاد العشق.

لا نستطيع أن نفعل شيئًا، وسيقولون الكثير في كل الأحوال.. يقول بعضهم: أنّ الحب اختيار.. وأنا اخترت.
بـ نقاط فوق الخاء، أو بدون!


عزازيل
الرواية الثانية للكاتب والمؤرخ المصري يوسف زيدان


8 comments:

السنونو said...

لحظات كتير لم استطع الفصل بين تعليقك واجزاء الرواية على الرغم من اختلاف اللون ..... زدت شغفاً بها

احمد سعيد said...

ههههههههههه
انتى مش قلتى انك مش هتقريها

وقلتى انك مش بتحبى التاريخ

ها

تاريخ دا ولا مش تاريخ؟؟؟؟؟

الانكار مش هينفعك

اعترفى

..................

على فكرة انتى مشكلتك مش مع التاريخ
مشكلتك مع البهايم اللى بيحكوا التاريخ

يعنى المشكله فى الاسلوب ذاته

التاريخ الصح بيسحبك من الواقع تماما وبيعيشك فى عالم تانى

بتفقدى الاحساس بالزمن


بتعيشى حياة تانيه
بل حيوات تانيه


انا لسه جايب الكتاب دة من المعرض اللى فات


يلا

ادعى لعمو يوسف زيدان

77Math. said...

السنونو


الرواية جميلة فعلا وتستحق إنها تُقرأ

77Math. said...

مدرس التاريخ أحمد سعيد !

هي المشكلة عويصة شوية .. يعني هو التاريخ جزء من المشكلة، والأسلوب جزء آخر

عزازيل كانت رواية أدبية أولا والتاريخ فيها ضمنيًا .. كنت مكسلة أقرأها لفترة طويلة بس أول ما بدأت كام صفحة ما قدرتش أسيبها إلا بعد إنهائها..

منتظرة رأيك بعد ما تخلصها

إنما في روايات كثير زي مثلا روايات عبد الرحمن الشرقاوي وخيري شلبي، أول ما أقرأ ملخص الرواية في خلف الغلاف وأعرف إنها تتحدث عن فترة معينة من التاريخ المصري .. بسيبها فورًا


مع إني قرأت روايات تانية تحكي عن الثورات الوطنية، ثلاثية أحلام مستغانمي ورواية حيدر حيدر أعجبتاني


بينما وردة مثلا لصنع الله إبراهيم لم أحبها أبدًا

هو مزاج في الآخر

بس برضه دا لا يمنع إن التاريخ ثقيل على قلبي، يمكن أنا توقفت عند تاريخ معين، أعجبني لدرجة أنني لا أريد أن أعرف شيئا عما بعده ..

يلا ما علينا.. أمة بلا تاريخ هي أمة بلا جغرافيا كما يقولون !


تحياتي

احمد سعيد said...

على فكرة
دى رابع مرة اكتب التعليق دة

كل مرة قبل ما اخلصه الجهاز يفصل والتعليق يطير

حسبى الله ونعم الوكيل




بقولك

انا شخصيا شايف ان التاريخ فى حد ذاته ادب
وان التاريخ والادب , كلاهما فلسفه

زى ماقولتلك , العيب فى رواة يتعاملون معه على انه ارشيف للوقائع

متعتى بالتاريخ بدأت يوم ان استطعت ان اراة كأشخاص , كل منهم عبارة عن شلال من المشاعر , مخاوف وامال , حقد ورضا وطمع وصبر وطيبه وخبث , وغيرة كتير

اول لما قدرت انى اتقمص تماما شخصيات
الحدث , افرح معاهم واخاف معاهم ,واكاد اشعر بما شعروا به, ودة بالطبع مش هييجى من روايات الناس اللى قولتى عليها , لازم الواحد يرجع للمصدر الراوى الاول , اللى كان معاصر الشخصيه ذاتها
يعنى
بحس انه صابح واخضر على رأى بتوع الخضار

والرجوع للمصادر دى بالطبع بيزيد الموضوع صعوبه , الا ان الشخص عندما يتمكن من اسلوبهم ومصطلحاتهم , بيجنى ثمن مجهودة , يعنى من الاخر بتشوفى الاحداث بالشكل اللى الاستاذ يوسف كتب الروايه دى بيه , انا اينعم لم التهمها بعد , ولكنى ادركت الاسلوب , الاحساس اللى بقولك عليه دة خلانى اقرا تاريخ الجبرتى اربع مرات بدون ملل او ضجر , مع انه خمس اجزاء , اخرهم وحدة يتجاوز الالف والستمائه صفحه

لكى ان تتخيلى المتعه التى تجعل الشخص يلتهم كل هذا القدر دون ان يتسرب
الملل الى نفسه

طبعا انا مش بنصحك تقريه , ( انا مش ناقص شتيمه وبهدله )


انا طبعا مش بحاول افرض وجهه نظرى , مجرد انى بوضح رؤيتى للموضوع , مش اكتر

.................................

صحيح , مين الاخ صاحب مدونه ( جحيم ) دة ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
لانه لفت نظرى قوى صراحه

77Math. said...

المعذرة بشأن جهازك واضطرارك لإعادة ماكتبت

انت قلت المفيد بشأن الاسلوب، الرواية دي كاتبها أستاذ تاريخ وأديب وخبير مخطوطات وآثار ..

يعني أقل واجب تبقى الرواية حلوة وتعجب حتى اللي مالوش في التاريخ أصلا !


أكثر العلماء عبقرية هو الذي يتحدث عن العلم فيفهمه كل الموجودين


بشأن الجحيم، لا أدري حقا من صاحبها - أو صاحبتها- فقد عرفتها من مدونة محمد عمر

وأعجبتني كثيرًا

تحياتي

احمد سعيد said...

اولا اشكرك على سرعه الرد

ثانيا اشكرك تانى لانى اتعرفت على المدونه دى من عندك

77Math. said...

العفو أولا وثانيا :)