14 January, 2012

نقد العقل المسلم

كم حزنت لأنني لم أعرف هذا الكاتب الرائع من قبل، كتاباته متّزنة عاقلة، فِكره ملائم تمامًا لما أبحث عنه، كُلّ ما قرأتُ منه سرّني.
وكم حزنت لأنني لم أعرف أنّه نفس كاتب كتاب "تحرير المرأة في عصر الرسالة" أيضًا، والذي كان بالأساس ردًا على كتاب "تحرير المرأة" لـ قاسم أمين.
أتحدث عن كتاب "نقد العقل المسلم" لـ عبد الحليم أبو شقة رحمه الله.
يقع الكتاب في ثلاثة فصول؛

الفصل الأول: أزمة العقل المسلم المعاصر.
الفصل الثاني: حول منهج التفكير الإسلامي.
الفصل الثالث: حول الخلاف والحوار.

يبدأ الفصل الأول بتبيان حجم العقل كنعمة خاصّة بالإنسان دون غيره من الكائنات، وربط الكاتب العقل بالإيمان ربْطًا يجعل أحدهما بدون الآخر خللًا في النفس، فكيف يكون الإيمان بلا عقل إلا عبودية لبشر؟ فنحن لم نر الله تعالى، ولم نتوصل إليه إلا بعقولنا، وما كان الهدي النبوي عبر الأزمنة إلا مكمّلا للطريق الذي ابتدأه العقل نحو الإيمان.
وما العقل دون إيمان يهديه ويرفع من إنسانيته وروحه؟ ودون قِيَم عليا يهتدي بها تحميه من تدمير نفسه والعالَم؟

العقل الواعي المتأمل المتحرر هو أجلّ ما في الإنسان، فلا هو ينجرّ أعمى نحو سلطان التقليد، ولا سلطان الهوى. وهو أنبل ما في الإنسان وهو الذي يرفع الإنسان إلى أن يكون متميزًا عن غيره من الكائنات التي لا تحتاج إلى العقل.
ثم يقول أنّ الدين جاء ليحرر العقل من الأثقال ولكنّ ورثة الدين يحجرون عليه بتضييق نطاق عمله، وإجباره على تقديس عقول الآخرين، والإنسان عندما يقدّس عقل آخر فإنّ ذلك يعني حتمًا إلغاء عقله. لأنّك لن تجرؤ على التفكير فيما يخالف ما قاله المقدَّس، وإنْ جرؤتَ على التفكير فلن تبوح به، ومن هنا يبدأ التقهقر الفِكْري في المجتمعات عامّة.
ثم يذكر الكاتب مظاهر الانحطاط الفكري، الجمود الفكري، التقليد المذهبي، الاستهلاكية، حصر الجهود في علوم اللغة والشريعة مع التركيز على التقعّر الشكلي دون المضمون، انعدام الاستقرار السياسي، نبذ العلوم الطبيعية وغيرها ..
ويستعرض أعراض انحراف العقل المسلم المعاصر:

1. الغفلة عن القواعد الأصولية والقواعد الفقهية.
كعدم مراعاة الأولويات فيتم تضييق الحلال وتحريم المباح بحجة سد الذرائع، دون فهم حقيقي لدرجة المصالح ودرجة المفاسد وعمل إحصائيات ودراسات ميدانية قبل اتخاذ قرار مصيري يخص الأمة.
ومنها عدم تقبل التعدد والتنوّع والاختلاف، فالاجتهاد باب أساسيّ في الفقه، لكنّ بعض الناس حجروا على باقي المسلمين بحجّة أنّهم ليسوا من أهل العلم، وأنّ الاجتهاد ليس لكلّ أحد فانصرف النّاس عن التفكّر في الدين وأخذوا عمّن جَهِل وأجْهَل.

2. الوقوع في بعض المزالق الفكرية.
ومنها التفسير بغير علم، والقول بأنّ الدين يحلّ جميع مشاكل الحياة، وهو قول قد يفهم بشكل خاطئ وسيء جدًا، فيظنّ الناس أننا لسنا بحاجة إلى عقولنا ولا إلى أن نعمل لنحلّ مشاكلنا بأنفسنا، وهذا مزلق فكري، فالعقل هو الأداة التي ستستخرج الحلول لهذه المشاكل من الشرع.

ومنها الفصام في النظر للنصوص الشرعية أو اعتبار حديث واحد مصدرًا للتشريع، في الوقت الذي تتوافر فيه أحاديث أخرى ناسخة أو مخَصِّصَة.
ومنها معرفة الحق بالرجال لا الرجال بالحقّ، وتقديس الأشخاص، مع أنّه حتى الرّسل عليهم السلام عرفهم الناس بالحق. فكان الحقّ ابتداء على وجودهم.

3. سيطرة الأعراض النفسية السلبية.
كالخوف من البوح بأقوال لم يقلها السابقون بحجّة أنّها بدعة أو ضلالة، مع أن الحديث يقول:"من سنّ في الإسلام سنّة حسنة" أي أن الاجتهاد عندما يصيب فإنه يجنّب الناس الشرور ويقدّم المصالح ولذلك فإنه مطلوب في كل عصر وحين، ومن كلّ مسلم عاقل يفكّر، ومن الأمراض تقديم النوافل على الفرائض والانشغال بالجزئيات عن الكليّات، والاتكالية وشخصنة المبادئ والأفكار، وفقد الثقة بالنفس والآخرين وغياب الموازين المحددة لما يقبل وما يرفض من نتاج حضارات الآخرين، والتفكير الأحادي الغير متعدد الزوايا وغيرها الكثير مما تجده واقعًا ملموسًا في المجتمعات العربية بشكل عام.

تراكمت الأزمة على مدى عقود، حتى أصبح الاعتقاد راسخًا أن عقول المسلمين أعجز من أن تتعامل مع النصّ بشكل مباشر، فتعطلت عقول الناس؛ وأنّ ما بيننا وبين حضارات الآخرين هو صراع علينا أن نكسبه بالتعصّب الأعمى لماضينا دون أن نتحرك خطوة واحدة على طريق مستقبل ناهض، وأصبح المهم حفظ المتون والنصوص والشروح والميل لقراءة وجهة نظر واحدة واتباع مذهب واحد دون قراءة أدلة المختلفين فضلًا عن محاولة التجديد والاجتهاد!

"ومن عيوب العقلية المتدينة المتشددة استعدادها الكبير للتشدد في أمور الدين ولسان حالها يقول "زيادة الخير خيرين" وكأنّ كل زيادة في الدين خير، بينما كلّ نقص مهما صغر فهو أكبر الشرور. وبهذا يختل الميزان الذي وضعه الشرع لحدود الخير والشرّ."

"إنّ تنزيه الله عز وجل وتقديسه واجب إسلامي، لكن الخطأ أن يتحول إلى تقديس كل ما له صلة بالدين، فأي أمر وأي إنسان منسوب إلى الدين (قيادة جماعة دينية / رجل صالح / عابد / رجل عالم / مجاهد .. ) كل هؤلاء يلحق بهم التقديس والتقدير المبالغ فيه من أتباعهم، فتختفي الأخطاء وتتحول إلى كرامات وعبقرية!"

ثم يضع الكاتب تصورات أولية لإعادة تشكيل العقل المسلم بالتركيز على ثلاثة محاور أساسية: تغيير الإدراك وأنماط التفكير، والتنوير بالمعلومات الصحيحة المنهجية عن الشرع والواقع كلاهما، وأخيرًا محور التلاقي بين ما سبق لبلورة تصوّر التغيير وبدء التنفيذ.

ويبدأ الفصل الثاني بأهم نقطة في صناعة الحضارات، وهي صناعة الإنسان، فكلما ارتقى الإنسان وبلغ درجة عالية من التحضر أدرك أهمية صناعة الإنسان، وأولاها عناية خاصة تفوق عنايته بصناعة الآلات، ورسم الخطط وبذل المال لإعداد صانعي الإنسان وصانعي الأجيال.

ثم يتحدث عن منهج إسلامي منطقي عقلاني يعتمد على التروّي في أخذ المعلومة والقدرة على نقدها بحياد دونما الاتكاء على مشاعر وانفعالات سابقة، ويتحدث عن المنهج العلمي، وكيف أنّه مطلوب أيضًا في مسائل العقيدة فضلا عن مسائل التشريع وقضايا التفكير.

ثم يحدد مصادر المعرفة الإسلامية:
1. الوحي كمصدر لبعض المعلومات عن الكون، بعضها وصلنا إليها بالعلم التجريبي وبعضها ماوراء العقل.
2. الكون. ووسائل تحصيل المعرفة فيه هي الحس والعقل.
ويحدد مناهج البحث والتحصيل بـ:
1. منهج البحث العلمي التجريبي.
2. المنهج العلمي الذي يدعو إلى التحرر من إسار الذاتية إلى الموضوعية.
3. منهج أصول الفقه والقواعد الفقهية وهو المنهج الموصل لحقائق الوحي باعتباره مصدرًا للمعرفة.
ويذكر ملامح أخرى للمنهج الفكري الإسلامي لا يطول المقام لذكرها.

في الفصل الأخير يتحدث الكاتب عن الخلاف والحوار، وعن أهمية كلّ منهما، فالخلاف ضرورة من ضرورات الخلق، ولن يتفق الناس جميعًا على شيء واحد ولو أردنا ذلك.

فالحلّ إذن في التحاور، وليس على أحد الأطراف أن يكون صوابًا والبقية أن يكونوا مخطئين، فقد يكون الجميع على صواب فيكون التعاون للنهوض بالأمة آكد.

لقد أصرّ المشركون على الرسول عليه السلام أن يأتيهم بمعجزات ماديّة حسيّة لكن العلم الإلهي رأى أنّ القرآن وحده كاف لذلك، وأنّ على البشر أن ينضجوا ويبدؤوا باستعمال عقولهم.