17 April, 2012

كراهية

- لماذا تحمل من الكراهية ما لا تحمله من الحُبّ؟
- لأنَّ الحُبَّ خفيفٌ لا يُثْقِلُ كاهِلي؛ ولأنَّه قويّ بما يكفي ليحمِلَنِي أينما شاء؛ أمَّا الكراهية فثقيلة على النَّفْس، ثقيلةٌ على الرّوح؛ لو تخفّفنا منها إلى اللامبالاة فكأنّما نتخفّفُ من أشواكٍ ألصقها بنا الآخرون. وجودها مؤلم، ونزعها مؤلم، وعلاجها الزَّمَن.
- كم مِنَ الزَّمَن؟
- منْ زرع الشوك؟ وإلى أيّ حدٍ تغلغل في مسام جلدك؟

01 April, 2012

في مكنون قوله: «حتّى يغيّروا ما بأنفسهم»ـ




مفردة «التغيير» هي من أكثر المفردات إشكالاً على الصعيد الدلالي. فهي تعني في الاصطلاح "الإصلاح"، ولكن تحمل في مادّتـها وحرفيتها "الغير"، "الآخر". وكأنّ التغيير (على وزن التفعيل) هو أساساً أن نصبح آخرين، غير ما كنّا عليه، حسب السياقات والظروف. تكمن خطورة "التغيير" في أن تكون الأمور "أخرى"، غير ما كانت عليه، وليس مجرّد "إصلاح" العطب أو الخلل كما ينمّ عنه المصطلح. وضرورة التغيير تمليها الأزمنة المتحركة والإرادات الفاعلة. فلا يمكن في أي مكان وفي أي زمان استعمال نفس الأدوات والمفاهيم والتصورات التي تحكّمت في العصور الغابرة. حتى وإن كان من الممكن الاحتفاظ بنفس التركيبات العقلية أو التشكيلات التاريخية أو التأسيسات النظرية والعملية، إلاّ أنّه من المتعذّر أن تكون لهذه التركيبات أو التشكيلات أو التأسيسات الدلالة نفسها أو الاستعمال ذاته من عصر إلى آخر ومن إقليم إلى آخر. لهذا السبب نتحدث عن «التغيير» (الغير، الغيرية، كيف نصبح أغياراً دون أن نتوقف عن كوننا نحن؟)، وأتحدث بشكل خاص عن «لابدية» التغيير كضرورة تاريخية ووجودية لا مناص منها، لأن الحياة تتطور، والعقليات تتقدم، والأزمنة تختلف، فمن المستحيل أن نوقف الزمن أو التغيير بحجة أنه لا يوجد أي شيء نغيّره في حياتنا. فالذي يقف في وجه التغيير هو الذي يخشى أساساً على سلطته ونخبويته ومصلحته، لا أكثر.


نردد في الغالب، بشكل تلقائي وتلقيني، دون الوعي اللفظي والتأويلي، للآية الشهيرة: «إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم» (الرعد:11). إذا كان هناك أموراً تستدعي التغيير، فهناك قبل كل شيء طريقتنا في رؤية الوجود والوقائع. وهذا ما نستشفه في الآية: ليس «تغيير النفس»، ولكن «تغيير ما بالنفس». وما بالنفس هو طريقة إدراكها للوجود والحياة بالأدوات الحسية أو الذهنية أو الذوقية كما تعلّمنا نظريات المعرفة. أي «ما بالنفس» هو المعيار النظري من العيار الخفيف أو الثقيل في وزن الأمور بميزان العقل أو الحس أو الوهم. فالشيء الذي يتغيّر في النفس وبالنفس هو «زاوية النظر» لترى الأمور من أوجه مختلفة، ومن منظورات مغايرة تحظر عليها النظر بشكل أحادي ومن زاوية واحدة فقط تبني بموجبها الأحكام وتحوّل على إثرها الوقائع إلى حقائق، فتتعسّف في أحكامها وتسرف في رؤيتها. وهنا أورد واقعة تكلم عنها ابن عربي في «كتاب المسائل» وهي الحوار بين الجنيد وسريّ السقطي: «قال الجنيد قال السريّ: سمعت غليم الأسود يقول من أقبل على الأشياء وهو يراها هربت عنه، ومن تركها أتته، قلت له: كيف ذلك يا سريّ؟ قال: كان يذكر أنّه كان يكسب ويجتهد فلا يقوم بكفاية معيشته، قال: فقرأت هذه الآية (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم) فتركت الكسب متوكّلاً على الله بالكفاية، فلو ضربت بيدي إلى هذه الأسطوانة صارت ذهباً وضرب بيده على الأسطوانة فإذا هي تلوح ذهباً. ثمّ قال: يا سريّ، هذه الأعيان لا تنقلب، ولكنّك هكذا تراه لحقيقتك بربّك، فانظر في قوله هكذا تراه يعني الحقّ وهكذا تراه يعني المرئي، أي الرؤية عائدة على الرائي». الرؤية عائدة على الرائي، كذلك التغيير عائد على الذات إذا أرادت أن تتغيّر أو لا. فإذا عزمت الذات على أن ترى المؤامرة أو القَدَر أو غيرها من المعتقدات النفسية، فالمشكلة فيها، وليس في الواقع الذي تسقط عليه إدراكاتـها، أي المشكلة عائدة على رؤيتها أو تواكلها أو تكاسلها، وليس في الأشباح التي تعتقد أنـها تدبّر لها المكائد. فلا يمكن التغيير بالهوس (البارانويا) أو الاعتقاد في الأوهام (مثلما يعتقد الطفل الصغير بوجود الغول)، ولكن يتأتّى التغيير بوضع الذات على محكّ النقد والقراءة التي تستهدف الماضي والحاضر.


إذا تغيّرت زاوية النظر، تصبح «كيفية» التغيير ممكنة ويسيرة، أي عندما نعي بأنّ الوجود متعدد الوقائع والحقائق، وبأن العالم لا يتمركز حول ذات أو منظومة، فإنه يمكننا أن نتغيّر عمّا نحن عليه، نحو وجود أرحب وعالم أوسع، لا ننغلق على بداهاتنا أو مكاسبنا، ولا نغلق العالم بسبب أوهامنا أو غبائنا. وإذا أحسنّا التغيير (أستعمل «الحُسن» بشكل جمالي وخُلُقي كأرقى ألوان التدبير والأداء، مضاهاة للإحسان في الثقافة الإسلامية، الأخلاقية منها والعرفانية) معناه أننا نُحسن تحويل الأنساق إلى الأفعال، و«الرأسمال» الرمزي والثقافي والنصي إلى «صفقات» أدائية و«عُملات» استعمالية. بتعبير آخر، تستدعي «كيفية» التغيير القدرة على تصريف الأشياء أو تحريك الأمور. فلا نتخّذ من تراثنا الملاذ لنحتمي به أو القلعة لنتحصّن ضد واردات الزمان، فنحيا في زمانه وننعزل عن وجودنا، ولكن نجعل منه «أداة» لاستعمال مغاير في الظروف والسياقات التي نحياها، والتي ترتبط بحاضرنا ومصيرنا. التراث هو للاستعمال وليس للتبرّك. مثلاً، النصوص التي نغترف من أفكارها ومفاهيمها، لا نكتفي بتفكيكها لنرى بنيتها ووظيفتها، ولا نكتفي بتأويلها لنقف على مبادئها وغاياتـها، ولكن نستعملها كذخائر لاحتياطات نظرية، وكأدوات لصناعات آنية وراهنة. هذا ما أقصده بكيفية التغيير، فهو يخص العلاقة وليس الحد، يستهدف الأداء وليس الشكل.


لماذا نتغيّر؟ يخصّ الأمر «ما بالنفس». أي لا يتعلّق الأمر فقط بما يجب تغييره خارج ذواتنا من مؤسسات أو نماذج أو برامج، ولكن أيضا بما يقتضي تغييره بذواتنا من أشكال في الإدراك وزوايا في النظر. إنّ «الباء» هي أداة التغيير، أي التغيير بالنفس من أجل النفس.

فإذا أتاح لنا تغيير ما بأنفسنا، فإنّ المؤسسات والتشكيلات تتغيّر، وعكسه؛ إذ أنّنا نتغّير بتغيير مؤسساتنا السياسية وتشكيلاتنا النظرية والثقافية والفكرية. هناك علاقة عضوية وحيوية بين «ما نحن عليه» و«ما نقوم به»؛ علاقة «لادونية» بتعبيرنا، حيث لا تتغيّر الذات سوى بتغيير الرؤية المتجسّدة في الخطاب والمؤسسة والممارسة؛ ولا تتغيّر هذه الرؤية سوى بتغيير إرادي يأتي من الذات يستهدف طريقة التعبير ونمط التفكير وصيغة التدبير. فالملاحَظ إذن أنّ التغيير هو أن تصبح الذات «غير» ما كانت عليه بالارتقاء نحو مستويات أخرى من الوجود والأداء. تتغيّر بالتحوّل في شروطها الوجودية والعملية، وتغيّر بإضفاء شيء مغاير أو مختلف في المستويات أو العتبات التي تنتقل إليها. من هنا، من يزعم بأنّ التغيير يكون بالعودة إلى الأصول التأسيسية المثبّتة في النصوص الأصلية، لا يتوهّم فقط، لا يتوحّم أيضاً، ولكن ينسف الأساس من جذره في إمكانية التغيير كمقولة وكواقع. عندما نقول نتغيّر، فإننا نقصد نتحوّل (نصبح أغياراً، آخرين)، وكيف نتحوّل بالرجوع إلى تأسيسات جاهزة لا تعبّر، بالمعنى التداولي، عن خصوصيات الزمن وتحوّلات الذهنية وارتقاءات العقلية وانفصاليات الجغرافيا؟ أي كيف نتحدّث عن التغيير بصيرورتنا أغياراً إذا كان الرجوع إلى المرجعيات التأسيسية تجعلنا بالأحرى هويات تتماهى مع ذاتـها، لتصبح نفسها، فتدور على رحى ذاتـها؟ كل تغيير هو انتقال بالنصوص لا انتقال في النصوص، حيث «الباء» هي مركب هذا الانتقال أو أداة التغيير؛ إذ «الفائيون» يدورون على رحى النص ولا يبرحون مكانـهم؛ و«البائيون» ينتقلون بالنص وينقلونه في المستويات التي يتقلّبون فيها؛ الفائيون يبقون على عتبة التصلّب والتخشّب، والبائيون يجوبون فضاءات التقدّم والتقلّب.  


أ.د. محمد شوقي الزين؛
كاتب وباحث في الفلسفة والفِكر الكلاسيكي والمعاصر