"يا أيّها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظَنِّ، إنَّ بعض الظنِّ إثم – الحجرات:12"
يـا أيّها الذين آمنوا بالله خالقًا للنفوس، وحده عارفًا خفاياها، بالعقل الذي يجعلك تعرف بداهة اختلاف الظروف والأنواء والنوايا، بالعِلْم الحديث؛ وأنَّ الظنون - والسيء منها بالتحديد - يُشْغِل الإنسان عن الكثير من الانتفاع الذي قد يمكن تحصيله بدلا من تبنّي ظنون ليست لها صحّة، ويدفعه للانحباس في عالَم من صُنْعِ خيالِه- والذي يصبح خيالا مريضًا مؤذيًا إن استفحلت به مساحات الظَنّ-؛ أيها المؤمنون بأنَّ للإنسان قلب، أريحوا قلوبكم من الظنون السيئة، اقطعوا بعض الظن باللامبالاة، أو بالتساؤل، أو بالفضول الإيجابي الذي يدفع للمعرفة الحقيقية، واجتنبوا كثيره.
"كثيرًا من الظن" وليس كلّ الظنّ، لأنه كما أنّ بعض الظنّ إثم، فإنّ بعضه صحّي ومطلوب، لكن ذلك الظن الصحي مطلوبٌ تجاهه رد فعل صحّي، كالتحقق منه، لأنّ المعرفة نور، والمعرفة ليست فقط أن تعرف المعلومة، بل أن تتعرف على أبعادها.
أمّا الظنون التي لا يمكن التحقق منها، فليس لها إلا حلّ من اثنين، إمّا أن تستسلم لها فتكون تعسًا، مع نفسك، ومع الأشخاص الواقعين تحت ظنّك؛ أو تتخطاها وتترك أسبابها فتكون حرًا.
قال صلى الله عليه وسلم "بُعِثْتُ أنا والسَّاعة كهاتين.. وضمّ السبابة والوسطى".
قال تعالى: "وإنَّ يومًا عند ربِّك كألفِ سَنَةٍ ممّا تعدّون"
* * *
أريد منك أن تضمّ سبابة يدك إلى وسطاها مفرودتين، وتضمّ باقي الأصابع، فعلتُ ذلك لتفاجئني تجربة فكرية "Thought experiment"
بدأ العام 1433 بالقياس الهجري قبل أقل من شهر، وبحسب الآية أعلاه، فإنه يوم وأقل بقليل من نصف يوم، فهل تكون القيامة بعد انتهاء اليومين كاملة؟ باعتبار أنّ كل إصبع يُعَدّ يومًا؟
ثم جاءتني هذا الفكرة المُعارِضة، عندما أقول أنا وصديقتي كهذين، وأضم إصبعين إلى بعضهما، فإنّني أشير إلى كلّ واحدة منّا بإصبع، أنا وصديقتي.
وبالقياس، فإنّ الساعة إصبع، وبعث الرسول إصبع .. والسؤال هو: هل تكون الساعة بعد انتهاء اليومين؟ أم أنّها في المسافة الفارقة بينهما؟
هل تكون الساعة بعد يومين كاملين؟ أم قبل ذلك؟
وكأي تجربة فكرية، لا يشترط أن يكون لهذه الأسئلة أهميّة أو تطبيق في أرض الواقع أصلا، وقد يستحيل معرفة الإجابة عن أي سؤال خلال التجربة، لكنّ الهدف هو المحاولة للوصول لتوابع الإجابة عن هذا السؤال.
الحُب: هو إرادة البقاء مع شخص ما بعد مشاهدة جوانبه المظلمة !
لا تحدثني عن الأحاسيس والمشاعر – على أهمّيتِها – وإنما حدثني عنك عندما تغضب وتثور، هل تكسر الأشياء وتتلفظ بما لا يمكن احتماله؟ هل تغفل عن كل ما تعرف جيّدًا أنّه يغضب الطرف الآخر وتضرب عرض الحائط كلّ مشاعره التي يُمكِن أن تصاب إصابات خطيرة لا يمكن شفاؤها؟
هل تأتي على إصاباته الماضية وتزيل كل أشرطتها اللاصقة لتعرّيها وتسكب عليها ماء مغليًا بلا رحمة؟ هل تغرس سكّينًا حادّة في أماكن من روحه أخذك في جولةٍ إليها ذات بوح؟ هل تستغلّ ما قاله ذات ضعف لتهاجمه به الآن ظانًا أنّك بذلك ذا قوّة؟
هل تؤمن بداخلك أنّك أفضل منه؟ وأنّه لا يستحقّك؟
هل يخالطك شعور بأنّك تتنازل ببقائك معه؟ وأنّ هناك أفضل ممن يستحقونك وتستحقّهم؟
مهما قلتَ عن لا إراديّة نوباتك الغاضبة وصعوبة التحكّم في تصرّفاتك وقت انفعالك، هناك جزء في عقلك وأنت تصرخ وتحطّم الأشياء، لو أنّك استمعتَ إليه فستتراجع فورًا، الجزء الذي يقول لك أنّ ما أنت على وشك فعله خلال الجزء من الثانية الآنية سيكون من أسباب الندم، والألم. وأنّه يجدر بك ألا تتهوّر أكثر، لو أنصتنا لهذا الجزء من الثانية فإننا سنستمع لصوت العقل قائلا أنّ عليك الاكتفاء بما فكّرت فيه، لا تنتقل لمرحلة التنفيذ لهدم ما بُنِي.
لكنّنا – وككلّ الطغاة – نرمي هذه النواة الصادقة بالرصاص، نتمادى فيما نفعله لإشباع الرغبة الشيطانية في التدمير، حتى لو كان الهدف الواقع عليه فعل التدمير هو نحن شخصيًا أو أقرب النّاس إلينا.
ما هي جوانبك المظلمة إذن؟
هناك جوانب يراها من يسكنون معك، أسرتك التي نشأت معها، رأو منك ما لم يره أصحابك الذين رأوك يوميًا في ميادين الدراسة أو العمل، هناك جوانب لم يطّلع عليها أحد، جوانبك المظلمة التي تتعلّق بأفكارك التي لم تتخلّق مضغة بعد، والتي تعرفها وتهرب من التفكير بها كثيرًا، بعضها تفكّر به قليلا أو كثيرًا لكنّك لا تستطيع تخصيبها أبدًا، بعضها الآخر، الأقلّ، قد تُسِرّ به للمقّربين.
من يقرر من يتحمل ماذا؟ المواقف وحدها تفعل! لا يمكنك أن تعرف أبدًا حدود احتمال أحد مالم تدفعه للحافة، ما قد أحتمله أنا قد يكون لشخص آخر أسوأ الكوابيس، ما قد يثير جنوني وينهي علاقتي بك قد لا يعني شيئًا على الإطلاق لغيري. هل للأمر علاقة بشعرة معاوية التي يرخيها حين يشدّ من أمامه، ويشدّها حين يرخي؟ أما من موقف تتمزق فيه الشعرة تمامًا على أشلاء علاقة ما؟
الضغط النفسي هو كلمة السر؟ أم أنّ كلمات السرّ في العلاقات بين البشر، وعدم الفهم بالتلميح الذي يمكنه أن يؤدي إلى انفجار لا يمكن التنبؤ بخسائره إلا بعد وقوعه فعلا؟
"إنَّما هي أعمالكم تُردّ إليكم، كما تكونوا يُوَلَّ عليكم"
يقول مالك بن نبي عن الحديث: "يحذّر فيه الرسول عليه السلام المسلمَ من كل استسلام للأمر الواقع"*، ونستشهد نحن به في السياق الخاطئ، فنجعله حجّة للسكوت عن الحاكم المستبدّ بحجّة أنّ الحاكم السيء دلالة على أنّ الشعب فاسد فالحاكم من الشعب وأخلاقُه أخلاقهم.
وأصبحنا نستشهد بجزء منها فقط "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ"، وكان هذا مبرّرا لرفض البعض للثورات العربية؛ قائلين بأنّ الأفراد عليهم أن يتغيروا أولا قبل أن يطالبوا بتغيير الأنظمة الحاكمة.
وليس لديّ سوى إجابة واحدة على هذا المبرر السخيف، لو أنّنا أردنا إصلاح بيت ما، هل سنبدأ بإصلاح الأطفال؟ أم أنّنا سنبدأ بتوعية الآباء، ثم يكون على الآباء إرساء قواعد وقوانين أخلاقية مُلزِمَة لكلّ سكان البيت بحيث ينصلح حال البيت؟
الفرق كبير بين الإصلاح الديني والإصلاح المجتمعي، أوّلما ظهرت الدعوة الإسلامية كدين بدأت بالأفراد واحدًا بعد آخَر لأجل صنع مجتمع مسلم، بينما حين تم إرساء قواعد الدولة الإسلامية في المدينة فإنّ الرسول عليه السلام هو الذي أرسى قواعد وأسسًا سيسير على أساسها المجتمع بادئًا بعملٍ مدني بحت هو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، بلغة اليوم يمكن أن نقول: تكافلا اجتماعيًا للمهاجرين الذين جاؤوا من مكة إلى المدينة لا يملكون شيئًا، وإرساء لقواعد المواطَنَة، وتوزيعًا للثروة بين أهل البلد الأصليين وإخوانهم الوافدين عليهم، حتى لا يصبح المجتمع طبقتين، طبقة من الأغنياء أهل البلد الأصليين، وطبقة من الفقراء الفارِّين من بطش أهلهم.
عودة للآية؛ المعقبات هي الملائكة الموكّلة بكتابة الأعمال كما هو مشهور في التفاسير، ومن سياق الآية يبدو أنّ للملائكة، سواء نفسها أو غيرها، وظيفة أخرى هي حفظ الإنسان أيضًا، وهنا قد يتساءل البعض عن كيفية عملها، وهل فعلا تحفظني الملائكة من السرقة مثلا؟ هذا موضوع ميتافيزيقي آخر تمامًا، المهم الآن، هو أنّ الإنسان سيبدأ بالتغيير فيغيره الله، ثم أتبع ذلك بـ"وإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا مردّ له" أيّ أن الإنسان سيتغير، وبعد ذلك سيصيبه السوء فلا تحفظه الملائكة لأنّ الله أراد به ذلك، والملائكة التي "حفظته سابقًا من أمر الله" لن تستطيع الآن فعل شيء، "فلا مردّ له" وما له من دون الله من وليّ.
الآيات السابقة لهذه الآية مباشرة: "عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ. سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ. له معقّبات .. "
ما العلاقة بين هاته المعقّبات وبين الإنسان؟ أو بينها وبين أعمال الإنسان بالتحديد السرية والجهرية؟ ومتى تكون متواجدة لحفظه ومتى تذهب عنه؟ ما الخطّ الفاصل بين حفظها له من أمر الله وبين عجزها عن ردّ السوء؟ ما آلية عملها فعلا؟ وهل "الهالة" التي تحيط بالمرء ليست مجرّد خرافة؟
المرضع .. هي المرأة التي لديها طفل في فترة الرضاع.
المرضعة.. التي تقوم بفعل الرضاعة الآن ..
نعم.. ستقوم الأم بإبعاد طفلها الذي كان يلتقم ثديها من هول الموقف.
يوم السُكْر بلا مسكرات، لكنّ عذاب الله شديد، رغم أنّ قيام الساعة لا يعني بعدُ حلول العذاب، لكنّ هول الموقف يبدو أنه عذاب في حدّ ذاته، فالإنسان الطبيعي يميل لاستقرار الأمور.
(2)
"ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير"
نعم؛ يمكن أن يجادل المرء في الله، لكن عليه أولا أن يحمل أحد ثلاثة أشياء على الأقل ..
أولا: علم يسمح بأن يكون الجدال في مستوى لائق بما نتحدث عنه، فلا يليق بمن قرأ عدة كتب أن يجادل في الله، وأنا أفرّق هنا كثيرًا بين من يجادل، ومن يتساءل.. فالتساؤل حقّ منذ بدء القراءة .. لكنّ الجدال، يحتاج أكثر من ذلك، يحتاج طلب علم بحق بغرض الوصول للحقيقة، لا لغرض الجدال.
ثانيًا: هدى، وهو ما يأتي بالتأمل أو التجربة أو الضرب في الأرض أو غيرها مما يصل بالإنسان للحكمة التي تتيح له أنْ يناقش الما ورائيات بأريحية نَفْسٍ وتقبّل عقل، وأن يكون الإنسان وصل بخياله مستوى قادرًا على تخطّي المحسوس من الأشياء.
ثالثًا: الكتاب المنير أظنّه نص مقدس من الأسبقين يمكن على أساسه بدء حوار جدلي.
وبشكل عام، كلّما كان موضوع الحوار فوق العادة كلّما كان على أدوات النقاش أن تليق به.
نقطة واحدة فقط إضافية؛ بعض الناس مكتوب أن تكون إمَّعة لأولئك الذين يجادلون بغير علم يسمحون لأنفسهم بالضلال .. والهداية لطريق واحد .. الجحيم.. "كُتِبَ عليه أنه من تولاه فأنه يضله" في الدنيا، "ويهديه إلى عذاب السعير" في الآخرة.. أي أنّ بعض الناس لا فائدة من محاولة إصلاحهم، فلديهم الدنيا بأكملها ولم يتعظوا، لم يُعمِلوا عقولهم، فقط اتبعوا بعض من لديهم "كاريزما الضلال" إن صحّ التعبير..
(4)
"ومن الناس من يعبد الله على حرف؛ فإن أصابه خيرٌ اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين. يدعو من دون الله مالا يضرّه وما لا ينفعه، ذلك هو الضلال البعيد. يدعو لَمَن ضرُّه أقرب من نفعه. لبئس المولى ولبئس العشير"
لا أريد الحديث عن الذين يعبدون الله وكأنّهم يتعاملون مع رجل أعمال، فإن طابت حياتهم سعدوا ودعوا له بطول العمر والسعة، وإن ضاقت تذمّروا من ضيق يده رغم غناه..
بل لفت نظري "ما لا يضره وما لا ينفعه" ثم "لمن ضرّه أقرب من نفعه" ثم "لبئس المولى ولبئس العشير" ..
وذكّرني بتدرّج السقوط الإنساني عمومًا، في البدء بالتخلِّي عما لا يضرّ أو فعل ما يظنّ أنه لن يؤثر في إنسانيتنا، ثم يتبع ذلك فعل ما تأثيره الضارّ غير مرئيّ، "ضرّه أقرب من نفعه"، ربما على المستوى النفسي، أو في مستوى اللا وعي، ثمّ، وقبل أن ينتبه المرء لنفسه، يكون قد فات الأمر لإصلاح الأمر.
(5)
"من كان يظنّ ألَّن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثمّ ليقطع فلينظر هل يذهبنَّ كيدُه ما يغيظ"
كنتُ أقول: سأدخل الجنَّة حتمًا، لكنّ أفكاري بالتأكيد ستذهب للجحيم. لديّ ثقة بأنّ الله سينصرني، فلا حاجة بي للتجارب السماوية..
لكن، أولئك الذين لديهم الشكوك في نصر الله، وليس النصر هنا بمعنى النصر في الحرب ضد عدوّ، بل النصر بمعنى التوفيق، سداد الخطوة، على المستوى الشخصي القريب الخاص جدًا، في الدنيا والآخرة، بمعنى أن يثق بنفسِه، وأن يثق بقراراته، أن يعرف أنَّ من خلقه سيكون معه دومًا لينصره في كل خطوة من خطواته في الدنيا، وأنّه في الآخرة سيكرمه ويؤيده، لأنه الله الغنيّ الكريم، ولأنّ البديل هنا هو أنّ عليه أن يكيدَ ليُذهِبَ غيظَه بأنْ يحاول اكتشاف السماء! كنايةً عن: عالَم الغيب.
يمكنني أن أعيش حياتي باطمئنان تامّ بهذه الآية فقط، إذا اقتنعتُ تمامًا أنني منصورة في كلّ حال.
"وكذلك أنزلناه آياتٍ بيِّناتٍ وأنَّ الله يهدي من يريد"
يمكنني أن أفهم "إرادة الله" متعلقة بالآية السابقة لها مباشرة، بحيث يكون الذين أراد الله لهم الهداية هنا هم الذين تخلَّوا عن رغبتهم في الوصول إلى أسباب السماء، وعرفوا الله أكثر، بمعنى اهتدوا إلى كينونة الله بما يمكن للإنسان أن يصل إليه، فهي هداية خاصَّة مطروحة في قلوب من أراد الله.
(6)
"ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس"
لا أدري لماذا استوقفتني. هل لأنه فقط "كثير من الناس"؟ بلا تحديد ولا هويَّة، ناس لا تعرفونهم، ناس قد لا ترونهم يسجدون أبدًا؟ لماذا أقول ذلك؟ لأننا لا نرى السماوات والأرض والشمس والقمر .. إلخ وهم يسجدون!
نحن فعليًا لا نرى سجود هذه المخلوقات، ربما نرى أنَّها خارج دائرة إرادتنا فقط. وكأنَّها ذاهلة عنّا بالصلاة لآخر لا نراه.
(7)
"ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقِبَ به ثُمَّ بُغِيَ عليه لينصرنَّه الله. إنَّ الله لعفوّ غفور"
الذين يطلبون التسامح مع جميع أصناف البشر وعدم عقاب المخطئ، والرحمة بـ"كبير السنّ" بعد أن فَجَرَ في شبابه وقوَّتِه وفَسَق، عليهم أن يقرؤوا الآية السابقة جيِّدًا.
هناك أمور تلحّ بشدّة شديدة ولا أستطيع تجاهلها عند سماعها:
أولا: عليك أن تأخذ حقك من الظالم.
ثانيًا: عليك أن تأخذ حقك من الظالم.
ثالثًا: عليك أن تأخذ حقك من الظالم.
رابعًا: اعلم بأنّ أخذك لحقك من الظالم ليس كافيًا لمنعه عن ظلمه.. لأنّه قد يبغي عليك مجددًا، واعلم أيضًا أنّ الله سينصرك لو حصل ذلك، لاحظوا.. هناك تأكيد على النصر الثاني من الله لمن قام بفعل العقوبة المماثلة في المرة الأولى فورًا ولم يسكت عن الظلم.. لم يذكر عون الله في المرة الأولى ولا دفعه لذلك بل قال "ذلك ومن عاقب" مباشرةً، لم يُرجِئ، لم يتعاطف، لم يتخاذل ..
هناك فكرة أخرى، ماذا لو كان الباغي في المرة الثانية شخص آخر مختلف عن الأول؟ بمعنى، (أ) ظلم (ب) فأخذ (ب) حقّه، فاعتدى عليه (ت) لأن ولاءه لـ (أ)؟.."ثُمَّ بُغِيَ عليه" لا تحصر البغي في نفس الشخص أيضًا، قد يكون هو نفس الظالم الأول، وقد لا يكون. فالفاعل هنا مجهول.
ولمن يقول أين الرحمة إذن؟
أجب أسئلتي:
هل من يبغي مرة أخرى على صاحب حقّ أخذه بالقوة يستحق أن يُعفَى عنه بالأساس؟
ألا يكون العفو عمّن يكون الخطأ هو النادر والمستدرك لا القاعدة؟
تخيلوا مثل هذه النفسيات بلا عقاب... لا تحتاجون كثيرًا للتخيل.. انظروا حولكم!
ثم .. "إنَّ الله عفو غفور"؛ لماذا؟ بعد التحريض على عدم المغفرة؟
لا أعرف لها سوى جواب واحد: عليك أن تأخذ حقك، على الله أن يعفو.. لا يحقّ لكم أن تعفو عن ظالم بلا قصاص.
إلا الظّلم في الإسلام.. إلا الظّلم عند الله. هو الشيء الوحيد الذي حرَّمه الله على نفسه قبل أن يجعله بيننا مُحَرَّمًا. فعندما تأخذنا رأفةٌ بالظالمين فهناك خلل عظيم في نفوسِنا.
(8)
"أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوبٌ يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور"
" ذلك بأنَّهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم"
ألا يكفي فعل ما يُسخِطَ الله لإحباط العَمَل؟
هل لابُدَّ من ذلك العداء والكراهية الشديدة التي تؤدي لكراهية رضوان الله؟ ولا تكون كراهيةُ رضوان الله إلا بعد عداء الله عداءً شديدًا.؟
الكثير منا يفعلون ما يُسخِط الله لكنَّهم يرِقُّونَ لحالهم، أو يتساءلون إن كان ثمّة سعة لرضا الله، أو أقلّ الأحوال، يعرفون أنَّ ما يفعلونه لا يؤدي إلى الكمال الإنساني.
(2)
"أم حسب الذين في قلوبهم مرضٌ ألَّنْ يُخْرِجَ الله أضغانهم"
أمراض القلوب.. التي لا يعرفها غيرُ خالِقُ القلوب، والذين يؤذيهم الاقتراب من هاتِه القلوب المريضة إلى الحدِّ الذي يصيبهم صديدُها..
هي الخَفِيُّ الأكثر وضوحًا؛ الغائب الذي يرسم الشخصية ويطبع على السلوك.
أحسب هؤلاء، الذين في قلوبهم مرض، أنّهم سيتوارون عن أنظار الله والعالمين؟ أيظنُّونَ أنَّهم سينالون مرادهم محققين غاياتهم الدنيئة دون أنْ يُخرِجَ الله أحقادهم كلّها، يومًا، على الملأ؟
أيحسبون أنَّهم سيفرّون من العقوبة في الآخرة؟ ومن قبلها؛ من الفضيحة بين الخلائق في الدنيا؟
يوجّه الله تعالى الحديث لرسوله: "ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم؛ ولتعرفنَّهم في لحن القول؛ والله يعلم أعمالكم"
قال له أنّه قادر على أن يجعل الرسول يتعرَّف أولئك المرضى بمجرد النظر إليهم؛ أن يجعل أشكالهم دلالة كافية لمعرفتهم. لكنّه رغم ذلك لن يفعل!
بل.. "ولتعرفنَّهم في لحن القول"
عليك أن تحرص، تتعلَّم وتجتهد لتعرفهم بنفسك، عليك أن تستمع جيِّدًا إلى من يحدثك لأنَّك ستعرفهم من تناقض حديثهم، من نبرة أصواتهم، من نظراتِهم الزائغة، من كلّ ذلك أو بعضه... ستعرفهم بنفسِك فلا تتّكل. حلل ما تسمع وستعرفهم حتمًا.
* كَتَبَ ابن القيم كثيرًا في أمراض القلوب؛ وكذلك عبد الرحمن الجوزي؛ ويمكن البحث عن ذلك.
(3)
"ولنبلونَّكُمْ حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوَ أخباركم"
عادةً يكون الاختبار/المقارنة بين شيئين أحدهما حسن والآخر سيء؛ مثلا هنا مفاضلة بين المجاهدين وأصحاب الأعذار: "لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا"؛
إذن؛ عودة للآية الأولى؛ أيكون المجاهدون هنا؛ ومن سياق الآيات السابقة لها، الذين حاربوا أمراض قلوبهم؟ الذين حاولوا معرفتها ليعرفوا إن كانوا مصابين بها؟ الذين إذا اكتشفوا أنَّ بقلوبهم مرضًا هبُّوا لعلاجه قبل أن يفوت الوقت؟
أيكون الصابرون هنا هم الذين لم يحاولوا فصبروا على ما جُبِلوا عليه "في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضًا"، الذين قالوا هكذا خلقنا الله ولم يحاولوا أن يصبحوا ذوي قلوب سليمة؟
"ونبلوَ أخباركم"
كمن يقول: وكلّه مكتوب.. تطوّر جهادكم أو صبركم، معروفٌ من هو المجتهد ومن هو الصابر، ومن هو المتكاسل عن كليهما، من المريض القلب، ومن الصحيح.. كلّ شيء. كلّ شيء.
(4)
"إنَّما الحياة الدنيا لعبٌ ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم؛ إن يسألكموها فيُحْفِكُم تبخلوا ويُخرِج أضغانكم"
مرةً أخرى؛ يقلّل من أهميَّة الحياة؛ ويصفها باللعب واللهو؛ الله يا سادة – بخلافنا – لا يأخذ الدنيا على محمل الجد، يقول لنا أنَّه يكفي الإيمان والتقوى، ولن يسألنا أموالنا، لأنَّه لو سألنا إياها "يخرج أضغانكم".. يا إلهي كم تعرف ما صنعت يداك!
إلا المال؛ اسأل أحد المسؤولين عن بيت مالا وانظر ما يقول لك! ستُخرِج أضغانه فعلا!
أيكون الإنفاق الواجب (الزكاة) هنا ضمن "تؤمنوا وتتقوا".. أيّ: أدّوا زكاتكم لضِعافِكُم فلا يسألكم أموالكم.. ابدؤوه بأداء واجباتكم فتعودون أحرارًا؛ في أوقاتكم، في أموالكم، فيما تملكون؟
أريد قول أشياء لا يُمْكِنُ قولها،وفِعْلَ أشياءَ لا يَصِحُّ فعلُها،أريدُ وقتًا لا أملِكه بينما أمْلِكُ بعضَ دقائق لا أعرف ماذا أفعل بها، أنفقها على الأشياء التي لا أريدها لأنّ ما أريده يحتاجُ وقتًا أطول.
أريد أنْ أرحل إلى الصومال لأنسى ما أريد قولَه، ويصبح ما أريد فعلَه بلا جدوى أمام ما سأراه هناك. حيث يتضاءل الطموح أمام بَشَر كأشباه العظام؛ أو بقايا عظام تتحرَّك بصعوبة وكأنَّها عرائس متحركة سئمَتْ موتها فقتلت صاحبها لتجرِّب الحياة.
أريدُ؛ ولا أجِدُ.. والإرادة فعلٌ صِحِيٌّ - كما يقول أخصائيو علم النفس- وبخاصَّةٍ عندما لا يجد المرء ما يريد!
*
حينما تتضاءل الرغبة في الحياة، تصبح الحياة أجمل. ستعرف أنَّ ما تريد قوله سيكون بلا معنى فور أن يتمّ قوله، – ماذا بعد؟– سيفقد ما تريد فعله طعمه إن فعلتَه فعلا – وبعدين؟– ، هكذا فقط تستطيع العيش بسعادة بعد أنْ تضع كلّ أمنياتك في صندوقٍ في سقف روحِك؛ لعلَّ أحدهم يدخل هناك ويفتحه ويرى ما تريد قوله فيقرأه دون أن تُضطَّر لقوله، ويعرف ما تريد فعلَه فيساعدك لتحقق أمنيتِك دون أنْ تسأل!
حينما تتضاءل الرغبة في الحياة، يصبح البَشَر أكثر تفاهة، تراهم كيف يختلفون على ما اتفقوا على تسميته بمباهج الحياة، ولا تستطيع أن ترى وجهًا واحدًا للبهجة، تحاول تعديل عويناتك مرارًا، تحاول استعارة عويناتهم، بلا جدوى. أنت غبيّ ولن تفهم، وعليك أن تتقبل قدرك.
حينما يتضاءل التشبث بالحياة، يصبح للأصدقاء معنى وجوديّ أعمق من أن تصفه الكلمات؛ وجودهم هو الشيء الوحيد الملموس في حياتك اللا مُثْبَتَة.. ما يثبت أنَّك عبرتَ من هنا يومًا إلا صديقٌ شَهِدَ حضورك؟
*
يقول وديع سعادة: "بالتحام الأحرف تلتحم الضلوع أيضًا. فضلوع الناس ليست سوى أحرف، تنتظر من يلحمها لكي تصير شخصًا يمشي."
فيا أيُّها الـ"حاء" وَ"الباء" التحما كي يولَدَ حُبِّي.
لأنَّني لا أريد أنْ أكمِلَ الخامسة والعشرين بلا حبيب.
فحين تتضاءل الرغبة في الحياة؛ تزداد الرَّغبة في الحبيب الذي تتمنَّى أنْ تَفنَى في وجودِه.
زرادشت؛ رجلٌ أراد أن ينير نفوس الناس؛ فرهن وقته ليبثَّ الحكمة فيهم بمحاضراته وكلماته النيِّرة! كانوا يستهزئون منه في البدء؛ ومن ثم؛ وبطبيعة الوقت والترحال؛ أصبح له تلاميذ.
*
انتهيتُ مؤخرًا من كتاب نيتشه "هكذا تكلَّم زرادشت" ترجمة: فليكس فارس وتقديم: عيسى الحسن... أخيرًا عرفتُ من هو زرادشت؛ كنتُ أعرف اسم الكتاب وأتعجب عن زرادشت هذا الذي نقل نيتشه كلامه؛ إلى أنْ عرفتُ الحقيقة.
إنَّه الاسم المستعار لنيتشه!
نيتشه هو الذي كان يرى أنَّه يقدّم للناس خلاصة الحكمة في كتابه هذا. يكتب بروح شاعر وفيلسوف؛ وبرغم أنَّه قد يبدو أحيانًا وكأنَّه يدعو لدحر العاطفة والعمل بالعقل فقط؛ إلا أنَّ كلامه ينضح بأهمية الروح، التعاطف والإشفاق.
فكأنَّه يصف طرفي الإنسان في تعاملاته؛ ووجوب حصوله على الغِلْظَة واللين معًا.
زرادشت؛ الذي يرافقنا طيلة الكتاب رجل ترك موطنه وأصبح يجول في الأرض باحثًا متأملا؛ لا يؤمن بالله؛ ويتعجب ممن يفعلون؛ ويرى أنَّ الدين وسيلة الضعفاء للحياة؛ الله، المسيح، الرهبان، الكنيسة، وفكرة الصلب من المفردات التي تثير سخريته لأقصى درجة؛ ومع أنَّه نشأ في بيئة دينية؛ إلا أنَّه كان يرفض الدِّين تمامًا؛ ومن وجهة نظري – بعد قراءة الكتاب – أنَّه يرفض الخنوع لفكرة تجعله يرفض مواجهة الحياة أو الجَلَد بحجَّة أنَّك تطلب التعويض من الإله بسبب إيمانك بهذه الفكرة؛ وهو ما يوجد لدى كثير من الذين يفهمون دينهم بشكل خطأ؛ الإسلام على الأقل؛ فيقولون لك "اصبر واحتسب" و"لك الأجر والثواب"؛ خالطين بين الصبر على ما لا يمكن تغييره بحال؛ وبين واجب العمل على تغيير ما يمكن تغييره.
يريد زرادشت أنْ يرتقي البشر ليصبحوا متفوقين، ويرى أنَّهم على ماهم عليه من العوام، إلا من جاهد نفسه – ويعظّم في ذلك من شأن جهاد النفس – لأجل أن يصبح إنسانًا متفوقًا راقي التفكير والسلوك.
وتختلف نصائحه بين النصائح المباشرة؛ وبين نصائح أخرى قالها له بعض من قابلهم أثناء ضربه في الأرض.
يتحدث عن معاني روحانية ويجيب بعض الأسئلة الثقيلة على الروح؛ يدعو إلى الإصغاء إلى صوت الجسد لأنَّه لا يكذب؛ يعتزَّ بأرضيتِه بدلا من ادعاء السماويَّة. أن يتصالح الإنسان مع نفسه وأن يقبلها كما هي ويحاول ترقيتها حتى يصبح إنسانًا كاملا، والإنسانية لديه لا تعني الملائكية، بل تعني الاعتراف بترابية الإنسان وجهاده لنفسه حتى يصل إلى أعلى رقيّ إنسانيّ ممكن.
"يا زرادشت؛ إنَّ ثمارك قد نضجت ولكنَّك لم تنضج بعد لتقطفها، لذا وجب عليك أن تعود لوحدتك حتى تصير ناضجًا."
يقول: "لتكن فضيلتك أسمى من أنْ تستخفّ بالأشياء عند تحديدها" في دعوةٍ إلى عدم تسمية الأشياء بغير مسمياتها فينتشر ما يطلق المرء من تعاريف خاطئة!.
يقول أيضًا:"إنني أبغض كل قارئ كسول – عن الكتابة يعني - لأن من يقرأ لا يخدم القراءة بشيء، وإذا مرّ قرنٌ آخر على طغمة من القارئين فلا بد من أن تتصاعد روائح النتن من التفكير! إذا أعطي لكل إنسان الحق في أن يتعلم القراءة، فلن تفسد الكتابة مع مرور الزمن فحسب، بل إنَّ الفكر نفسه سيفسد أيضًا."
ويقول:"تريدنا الحكمة شجعانًا لا نبالي بشيء، تريدنا أشداء مستهزئين، لأنَّ الحكمة أنثى، ولا تحبّ الأنثى إلا الرجل المكافح الصلب"
*
قال: "لم تبلغ المرأة بعد ما يؤهلها للوفاء كصديقة، فما هي إلا هرة، وقد تكون عصفورًا، وإذا هي ارتقت أصبحت بقرة".
عندما وصلتُ لهذا المقطع ضاقت نفسي من نيتشه ومن الكتاب؛ ظنًا أنَّه يحتقر المرأة بشكل خاص؛ ثم بعدها مباشرةً؛ وجدتُ أنَّه يحتقر الرجال أيضًا؛ فخجلتُ من نفسي أنْ أضيق بمن يشبهني في حديثه. ليس من حقي أن أضيق به وقد طاح في الجميع! والمساواة في الظلم عدلٌ كما يقولون!
ولا أدري بعدُ – صدقًا – ما يوجد في البقرة يجعلها أرقى من الهررة والعصافير!
قال بعدها: "ليست المرأة أهلا للصداقة، ولكن ليقل لي الرجال من هو أهل للصداقة بينهم؟ إنَّ فقر روحكم وخساستها يستحقان اللعنة أيّها الرجال، لأنَّ ما تبذلونه لأصدقائكم يمكنني أنْ أبذله لأعدائي دون أن أزداد فقرًا"
ويقول – فيما يبدو للجميع – : "إنكم لا تتخذون إلا الأصحاب؛ فمتى تسود الصداقة بينكم؟"
*
يقول نيتشه: "لقد مات جميع الآلهة فلم يعد لنا أمل سوى في ظهور الإنسان الكامل"؛ فهل يعني أنّه كان هناك آلهة ثم ماتوا؟ وهل يعني – أم أنها ثقافتي تحكم – أنَّ الاتصال بين السماء والأرض قد انتهى وآل مآل الأرض للأقوى من البشر؟
*
ورغم كلّ ما يبدو على زرادشت من الثقة والعلوية التي يتحدث بها ناصح معلِّم إلى تلاميذه؛ فقد قال لأتباعه أنّ كلامه ونصائحه كلّها ربما تكون خطأ؛ وأنّه لا دليل على صحة ما يقول أو أنّه هو نفسه قد يغير رأيه فيما قال يومًا ما. ولا أدري إن كان هذا تواضعًا؛ أم أنَّه انطلاقًا من شعوره بأنَّه الباحث عن الحقيقة الذي يريد للجميع أن يبحث معه لا أن يأخذوا كلامه كأمر مسلَّم به؛ فهو بحاجة إلى من يناقشه لا من يؤمن به دون تشكيك.
يقول: "اللطف لا ينفصل عن مكارم من بلغوا الأوج بتفكيرهم"
ويقول: "إن بين الإفراط والتفريط قيد أنملة، فلا تحتقروا هذا المدى لأنه بعيد وإن قصر"
ويقول: "ما من جمال إلا في تنازل القوة إلى الرحمة"
ويقول: "إن السعادة تتأثرني لأنني لا أتأثر بالنساء. وهل السعادة إلا امرأة؟"
يعظِّم نيتشه من أهميّة الفرد؛ وتحقيق رغباته هو وإرادته هو؛ ويشدد على رفض تنفيذ الأشياء في قطيع دون تفكير فيما يرغب فيه الفرد أولا؛ ويشدد على أهمية أن يحب المرء نفسه أولا قبل أن يحب غيره.
*
يقول عن الزواج: "انتبهوا لكل زواج تعقدونه واحذروا العقود الفاسدة لأنكم إذا تسرعتم بها لا تجنون غير حلِّها، على أن فسخ الزواج خير من تحمله بالمصانعة والمخادعة".
ويقول: "ليس ما فُرِض عليكم أن تتناسلوا وتتكاثروا فحسب، بل عليكم أن ترتقوا أيضًا، فلتكن جنَّة الزواج مدخلكم إلى المرتقى".
الكتاب يستحقّ القراءة. لو أنَّك من المهتمين بسبر أغوار النفس البشرية. والتأمّل فيها.. جدير بالذكر أنَّ نيتشه أصيب بالجنون في نهاية عمره وبقي وقتًا طويلا في مصح نفسي؛ وبحسب ويكيبيديا فإنَّ أمه أخرجته منها ليمكث معها حتى فارق الحياة. ويوعز المحقق ذلك إلى أنَّه لم ترض به امرأة أبدًا؛ فلم يتزوج ولم يسكن إلى امرأة أو تسكن إليه امرأة، ويقول:"لو وجد نيتشه امرأة تؤمن به حتى النهاية لأنقذته من الجنون" لأنّ العقل البشري يعمل بطريقة مختلفة عندما يكون وحيدًا، فكيف بعقل كعقل نيتشه؟
الوِحدة؛ هي سبب قوله:"الآن لم يعد أحد يحبني، فكيف أستمر في حبي للحياة؟"؛ "حتى الضوضاء تكون عزاء بالنسبة للإنسان الوحيد"؛"المتوحد يلتهم نفسه في العـزلة ومع الحشـود تلتهمـه أعـداد لا متناهية" وأخيرًا: "إني أشتاق إلى الكائنات البشرية وأبحث عنهم، ولكنني دائما أجد نفسي فقط، مع أنني لم أشتاق إلى نفسي، لم يعد يأتي أحد إلي، ولقد ذهبت إليهم جميعا ولم أجد أحدًا".
كانت تجبر الجميع على الوقوف فور بدء الحِصَّة؛ وقفنَ جميعًا؛ وقفت متأففة؛ استنشقت الهواء؛ كان صوت المكيف يوحي بأنَّه يعاني؛ قالت بصلافة وهي تشير إلى إبطها: شيلوا الشعر؛ وبعدين اعصروا ليمون قبل ما تيجوا.. واتروشوا! انتوا ما تتروشوا؟ أنتنَّ الآن فتيات كبيرات وكلّ واحدة فيكنّ بإمكانها أن تدير منزلا!
ابتسمتُ؛ كيف تتحدث عن أشياء تخجل معظم الفتيات من التحدث فيها؛ بهذه الجرأة والصراحة؛ تقول ما لم تقله لي أمِّي أمام كلّ هاته الفتيات!
لم أكن أحبّها؛ لكنني كنت أحبّ وجودها كثيرًا ! وأنتظر حصَّتها كأنني على موعد مع حبيب! أحِبُّ المنافسة ومن يجعلني يقظة؛ من يملك هالةً توحي بأنّ لديه الكثير؛ من لا يطرح أوراقه كلَّها مرةً واحدة فتعرفه قبل أن تعرفه!
تمامًا كالكتاب الرائع الذي لا نريد له أن ينتهي؛ نغلقه أحيانًا ونتركه أيامًا بلا وعي منَّا أن السبب الحقيقي هو أنّنا نريد استبطاء ابتهاجنا به لأننا لا ندري كيف ستكون حياتنا بدون ذلك الإحساس الذي يمنحنا إيَّاه وقت مطالعته.
لا نريد للمواقف التي تحدّونا بها وتحديناهم بها أن تنتهي؛ أين ستكون الإثارة إذن لولا وجودهم؟.
في نهاية السنة الأخيرة؛ صافحتني؛ وقبَّلتني بودّ...
وإلى الآن؛ لا ننسى أنا وصديقاتي؛ كلما جاء ذكر المدرسة؛ أن نتحدث عن أبلة ريم.
قالت العرب قديمًا:"عنِ المرء لا تَسَل وسَلْ عن قرينِه؛ فكلّ قرينٍ بالمقارِن يقتدي"؛ وهو أمر أستطيع جازمة أن أقول أنَّه هراء هذه الأيَّام!
كم تعرف من النَّاس الذين يعرفونك حقًا وتماثل أفعالَك أفعالَهم؟
الآن حيث تكثر المعارف، لا يكاد اثنان يتحدثان في مكان ما حتى يتبادلا أرقام الهواتف المحمولة، ولا يتصلان بعدها أبدًا، لكنّك – لو فحصت هاتفك – فستجد حتمًا بعض الأسماء التي لا تذكر أصحابها، ولا تعرف عنهم شيئًا على الإطلاق.
ومع كثرة المعارف والعلاقات، تلتصق بمعظمها صفة العبور وتُنتَزَع الديمومة إلا من علاقات الاضطرار اليوميَّة، زملاء العمل الذين كنت أراهم يوميًا وأهاتفهم يوميًا منذ أن تركتُ العمل لا أعرف عنهم شيئًا، حاولتُ مع إحداهنّ مدّ حبال التواصل، لكنّ الدنيا كانت أكبر منّا.
الوقت أصبح أقلّ بركة، اليوم أصبح مزدحمًا بالمشاغل، المساحة التي "نقترن" فيها بالآخرين تكون بأحسن أشكالها تزجية لوقتٍ نريد فيه هزيمة همومنا الخاصَّة في جو أكثر مرحًا؛ لكنّ أحدًا لا يعرف – فعلا - عن قرينه شيئًا.
لو كان لك قرين ينطبق عليه شاهد الشعر السابق؛ فأنت إنسان محظوظ حقًا.. غير ذلك .. فالعرب القدماء مخطئون في حقك!