عُرض كلٌّ من البرنامجين على قناة Mbc4, في نفس الفترة رغم اختلاف الغاية؛ وبما أن استنساخ برامج تلفزيون الواقع هو عادة عربية بامتياز, فأبدأ مقالتي بهذا الرجاء: أن تُرمى فكرة استنساخ برنامج (لحظة الحقيقة) في سلة المهملات, ويُستنسخ بدلا منه برنامج (المخترع الأمريكي).
برنامج (المخترع الأمريكي) – لمن لم يره - يستفزّ عقول الناس في كل بقاع أمريكا ويستحضر الهمم من أجل التنافس الشريف ليفوز صاحب الاختراع الأول بمبلغ مليون دولار, والجميل في البرنامج أن واحداً من الأربعة المرشحين للفوز لم يكن أشقر اللون أو ذا أصل غربي, عدا أن لكل منهم قصة إنسانية مذهلة بدءاً من انبثاق فكرة الاختراع في ذهن صاحبها, إلى سنوات الصبر الطويلة والمثابرة الحثيثة لتحسين الاختراع والعمل عليه للوصول إلى الجائزة.
كنت أتابع البرنامج مع عائلتي دون أن أستطيع إخفاء انحيازي لأصغر المرشحين سناً, الشاب ذي التسعة عشر ربيعاً, الجامايكي الأصل الذي وفد إلى الولايات الأمريكية المتحدة بعمر 12 عاماً, وعاش في بيئة فقيرة بين أبيه الكادح وأمه المريضة, وحفّزته وفاة أخته الصغيرة على التفوق لأنه كان دائماً يتخيل أنها ستكون سعيدة لسعادته, وأما اختراعه فقد كان دراجة هوائية بمقعد إضافي أمام السائق يمكّن الجالس فيه من تحريك دوّاستين إضافيتين, فأعطى بذلك مثالاً حياً على الحكمة القائلة بأن الحاجة هي أم الاختراع, إذ لم يكن لدى أسرته سوى دراجة واحدة لا تكفيهم للتنقل.
أما الذي فاز بالجائزة, فهو رجل من أصل هندي, توفّيت طفلته داخل سيارته إثر اصطدامها بسيارة أخرى, فقضى سنوات طويلة يعمل على تحسين المقعد المخصص لجلوس الأطفال ليجعله أقرب إلى شكل رحم الأم, فيحمي الطفل من أي صدمة, وهي فكرة عبقرية ومثال للشخص الذي يستطيع أن يحوّل المحنة إلى منحة جاعلاً من الليمونة الحامضة عصيراً حلواً.
رغم انحيازي للشاب الصغير فقد كنت أعلم أن هذا الرجل هو الذي سيفوز بالجائزة, لأن اختراعه يسعى إلى حماية الحياة, وهي المطلب الأول قبل التعليم الذي كان مجال اختراع المرشح الواصل إلى المركز الثاني, وكذلك قبل الرياضة التي كانت الحقل الذي تحرك به المشارك الذي وصل إلى المركز الثالث, وكلاهما أمريكي أفريقي, وليس أمريكياً أبيض.
لجنة الحكام ينحدر أفرادها من أصول مختلفة أيضاً, وفي ذلك تأكيد على نزاهتها وشفافيتها, إضافة إلى تخصص كل منهم في حقل معين يجعلهم جميعاً يتكاملون رغم الاختلاف, لذلك فقد تبدى في برنامج (المخترع الأمريكي) الحلم الأمريكي حقيقة واقعةً, وذلك بنجاح كل من تلوح أمامه الفرصة فيُحسن اهتبالها, ومن هنا تأتي أمنيتي أن أرى برنامجاً مثله على الفضائيات العربية.
أما برنامج "لحظة الحقيقة" فهو صادم للأمريكيين أنفسهم, لدرجة أن الإعلان للبرنامج يشير إلى الجدل الواسع الذي أثاره البرنامج, ولكن الإعلان الذي أخافني حقاً هو أن هناك نسخة عربية قادمة منه, والسؤال المطروح: لماذا نقلّد الأمريكيين في الانحدار ولا نقلّدهم في العبقرية؟!
البرنامج - لمن لم يره أيضاً- يستضيف متسابقين عاديين, لا فنانين ولا مشهورين, ويجلس المتسابق أو المتسابقة على كرسي في المنصة مقابل المذيع, بعد أن يكون قد تم توجيه 50 سؤال له أثناء الإعداد للبرنامج مع تقييده إلى جهاز كشف الكذب, ثم يتم انتقاء 21 سؤالا من هذه الأسئلة لتوجيهها مرة أخرى إلى المتسابق أمام الجمهور الذي يضم ثلاثة من أقرب المقربين إليه, وهؤلاء المقربون يجلسون على المنصة أيضاً ليستطيعوا الضغط على زر يمكّنهم من إفساح المجال للمتسابق بالهروب من ورطة سؤال واحد لا أكثر!
يجب أن يكون المتسابق صادقاً في كل إجاباته حتى يستطيع الوصول للجائزة المقدرة بمبلغ 500 ألف دولار, ويبقى خلال المسابقة مهدداً بكشف أخصّ خصوصياته, وهذا التهديد لا يقف عند حدّ فضح شخص المتسابق فقط, بل يتعدى ذلك ليهدم أقوى العلاقات البشرية كالعلاقة مع الأم أو مع شريك الحياة.
يتم اختيار الأسئلة بعناية ومن خلال معرفة كلية بالمتسابق وبماضيه, وخفاياه وسوابقه, ويعتمد المذيع على إشغال المقربين الثلاثة ببعض الأسئلة أيضاً, وذلك بغية تحريض المتسابق على قول الحقيقة, ومع تداعي الأسئلة يتم كسر الرابطة الإنسانية بين المتسابق وأحد المقربين منه تدريجياً؛ على سبيل المثال تُطرح أسئلة عن الخيانة الزوجية, حتى لو كانت متخيَّلة, كرسوخ علاقة سابقة للزواج في صميم نفس المتسابقة وعدم إمكانية استبدال الزوج الحالي بالصديق القديم على مستوى الخيال كما حدث في الحقيقة, مما يشكّل صدمة كبيرة للزوج الجالس والذي يستمع إلى إجابة زوجته التي تطيح بمكانته في نفسها من أجل المال, فيبدو كأنه "خيال المآتة" أو كأنها تزوجته لإكمال "البرستيج" الاجتماعي.
حتى في أمريكا خيانة الرجل لزوجته أهون من خيانة المرأة لزوجها, ولكن السؤال الأكثر إدانة للشعب الأمريكي, وليس للمتسابق أو لعائلته فقط, هو الذي يطرحه المذيع ببرود أعصاب: هل بقي في أمريكا صادق واحد؟! وسبب السؤال أنه لا أحد من المتسابقين استطاع تخطي حاجز 100 ألف دولار, بسبب انسحابهم من المسابقة قبل أن يخسروا المال الذي فازوا به بعد خسران علاقاتهم مع أقرب المقربين, وذلك على عكس الفئة الأخرى من المتسابقين الذين خرجوا من البرنامج مفلسين, بعد أن خسروا العلاقات والمال معاً؛ وقد ألقت الحلقة الأخيرة من البرنامج الضوء على حالة امرأة خسرت الأمرين, بعد أن وصلت لسؤال المائة ألف دولار من خلال تحطيمها لعلاقتها الزوجية باعترافها أنها تفضّل أن تكون مع صديقها السابق الذي أحضره البرنامج ليلقي عليها سؤال الأفضلية بنفسه, وكان سؤال المائة ألف دولار: هل تعتقدين أنك امرأة صالحة؟
أجابت المرأة - التي اعترفت بخياناتها الحقيقية والمتخيلة - على سؤال الصلاح بنعم, وأعلن البرنامج أنها إجابة خاطئة فخرجت بخفيّ حنين – كما يقال – أو بالأحرى خرجت تجر ثوب الخزي, فقد فضحت نفسها بخياناتها, كما فضحت مدى جهلها بنفسها, فهل لبشر عاقل أن يظن نفسه صالحاً بعد خيانته لأقدس رباط بشري؟!
إلقاء الضوء على هذا البرنامج ليس بغاية الإعلاء من شأنه, بل خشية مضي "العبقرية" العربية قُدماً من أجل استنساخه؛ وإذا كان الراحل عبد الوهاب المسيري قد درس ظاهرة الفيديو كليب أو بالأحرى العري كليب, وطالب النسويات أو المدافعات عن حق المرأة بالمساواة مع الرجل بوقف هذه الظاهرة المهينة لإنسانية المرأة, فإني أطالب أن يرفع كل مدافع عن الأسرة صوته لمنع استنساخ برنامج لحظة الحقيقة أو أي برنامج مشابه له, لأن الله أمرنا بالستر على أنفسنا وعلى غيرنا, وفي الحديث الشريف:(كل أمتي معافاة إلا المجاهرين).
أرجو ألا يفهم أن ديننا يبرّر الأخطاء أو أنه يدعو إلى الستر على المسيئين بحق البشر الآخرين, وأذكر أن شخصاً أمريكياً أرسل لي تعليقاً على إحدى مقالاتي - المترجمة إلى الانكليزية - يضم مقالة يرى كاتبها أن ثقافتنا العربية هي ثقافة العيب وثقافتهم الغربية هي ثقافة الشعور بالذنب, ومع أن في هذا الرأي شيئاً صحيحاً؛ لكن برنامج "لحظة الحقيقة" حطّم ثقافة الشعور بالذنب التي يتفاخر بها الغرب, وبقي علينا ألا نحمّل ديننا وزر عيوبنا, بل من واجبنا أن نقدم ثقافتنا الإسلامية على أنها ثقافة الستر من أجل المغفرة, لا أن ننتقل من ثقافة العيب إلى ثقافة الفضيحة!
د.ليلى الأحدب
الوطن السعودية 14/7/2008
No comments:
Post a Comment