"لحظة صراحة".. كان هذا عنوان البرنامج الأمريكي الذي تذيعه القناة الرابعة من سلسلة قنوات MBC الفضائية.. استمعت إلى إحدى حلقاته، وهو تطوير لفكرة برنامج "من سيربح المليون"، ولكن بدلا من توجيه الأسئلة في المعلومات العامة؛ ولأنهم يلهثون وراء التشويق الذي يعتبرونه جزءا من المتعة التي يدفعون من أجلها أي شيء؛ فالجديد الذي يقدمه البرنامج هو أن الأسئلة تخص أدق أسرار الحياة الشخصية للمتسابق.
لم تعد فكرة الربح السريع السهل بدون مجهود التي أطلقها برنامج "من سيربح المليون" مثيرة بما فيه الكفاية، خاصة بعد أن انتشرت الفكرة إلى مئات البرامج والمسابقات القائمة على نفس المنظومة من تعلق الناس بالحلم اللذيذ، وهو أن يصبحوا مليونيرات بمجرد اشتراكهم في برنامج مسابقات لتضيع قيم العمل والمجهود في وسط أحلام ملايين البسطاء أن يجلسوا على الكرسي السحري الذي ينقلهم من عالم الفقر إلى عالم الغنى بمجرد الضغط على بعض الأزرار وهم يجيبون عن الأسئلة.
هدم لقيم الإنسانية
وانتقل برنامج "من سيربح المليون" إلى نسخة عربية؛ ولأن الحياة عندنا أصعب والمجتمعات أقل نضجا والناس لا يفهمون ما يُفعل بهم، فلك أن تتخيل هذا التأثير الذي ذكرناه -وقد ضرب في مائة- تربويا واجتماعيا وقيميا ونفسيا، ولأن إذاعة النسخة الأمريكية على إحدى قنواتنا العربية في الغالب يتبعه تحويله لنسخة عربية مهما كان الاختلاف الثقافي بيننا وبينهم والحديث عن حرية الإعلام والإبداع جاهز ليشهر في وجه كل من يجرؤ على الكلام، فكان لابد أن أقف رافعا صوتا مبادرا بالتلويح بالخطر القادم، بل بالدعوة هذه المرة إلى مهاجمتهم في عقر دارهم، معلنين رفضنا لما يجري لأن الأمر تجاوز الخصوصية الثقافية إلى هدم كل ما هو إنساني بمعنى الكلمة، وهو أمر يجب أن نهب جميعا للدفاع عنه انطلاقا من كوننا ننتمي إلى الإنسانية التي يهدرونها والتي نقدر تماما أن هناك في بلادهم من العقلاء من يشاركنا رأينا ورؤيتنا في خطورة العبث بقيم الإنسان وبكونه إنسانا فقط قبل أن يكون منتميا لدين أو لثقافة أو لبلد معين.
يحضر البرنامج جميع أفراد أسرة المتسابق، وفي الحلقة التي شاهدتها والتي أقدمها دليلا على ما أقول كانت المتسابقة سيدة متزوجة، وكان يحضر زوجها بالطبع وأمها والأخ وزوجته، ومقدم البرنامج يقدم للناس أسباب اشتراك المرأة في الحلقة، وهي أن لديهم أولادا، وعليهم ديونا، وأن الرجل متعثر في حياته الوظيفية، إنها البداية.. الرسالة الأولى: يا من تحتاجون المال من أجل أولادكم لا تبذلوا المجهود وتعالوا عندنا فسنحل مشاكلكم، الرسالة واضحة جلية وليست استنتاجية، فالمقدم طوال البرنامج يؤكد عليها كلما بدا أن المتسابقة قد تعبت مما يفعله بها، فيبتسم ويقول تذكري أنك قد جئت من أجل المال وأن لديك متاعب ستحلها الدولارات التي ستربحينها... وهكذا.
أبسط الأسئلة هو سؤال لو أنكِ متأكدة تماما من أنك لن يكتشف أمرك ولن يقبض عليك فهل ستقدمين على سرقة مصرف (بنك)؟ ليكون الرد الصريح نعم، وليعلق الزوج وسأكون أنا من يقود السيارة التي تهرب بها.. ويعلو التصفيق، وليرسخ في الأذهان أن ما يمنعنا من سرقة البنوك هو فقط الخوف من القبض علينا، ولكن الأصل أن كلنا لصوص ننتظر الفرصة، وليس الأصل أن فطرتنا سليمة تأبى الخطأ والخطيئة.
ولكن هذا سؤال بسيط جدا ويضرب قيمة بسيطة لما تضربه باقي الأسئلة مثل:
· هل غازلت أحد الرجال بعد زواجك؟!
· هل تخيلت أحدهم وأنت تمارسين الجنس مع زوجك؟!
· هل تخيلت أحد أفراد فريق موسيقي مشهور وأنت تمارسين معه الجنس؟!
· هل تمنيت إقامة علاقة جنسية مع أحد زملائك في العمل؟!
· هل دعوت أحدا ممن أقمت معه علاقة جنسية إلى ليلة زفافك؟!
· هل توجد لديك أسرار يمكن أن تكون سببا في إنهاء حياتك الزوجية؟!
الإجابة الصريحة عن كل هذه الأسئلة هي نعم بالطبع، حتى يصبح الأمر مشوقا ومثيرا، والمذيع يقول لها بصراحة هذه الأسئلة تضرب قيمة الزواج ولن تعود العلاقة بينك وبين زوجك بعد الحلقة كما كانت قبلها، ولكن كل شيء يهون في سبيل مائة ألف دولار، والسيدة تبدي موافقتها على المبدأ والجميع معجبون بتضحيتها من أجل بيتها.. التضحية بماذا.. بكل قيمة للزواج.. ليس كلامنا.. إنه كلام مقدم البرنامج حتى لا يعطي أحدا الفرصة للتأويل أو الفهم الخاطئ.
والغاية.. المال
ولأن قيمة الزواج ليس فقط المطلوب أن تضرب، فإن أسئلة من شاكلة هل ترين نفسك كأم أفضل من أمك هي أسئلة عادية في هذا السياق، والعجيب -إذا بقي هناك شيء يتعجب منه- أنه من حق الزوج الاعتراض على السؤال الموجه لزوجته بحيث يُلغى وتسأل غيره، ومع ذلك فإن الزوج لم يعترض على كل الأسئلة السابقة، وإنما اعترض على سؤال واحد، وهو هل تشعرين بالحرج من كونك يهودية؟ هنا تحركت الشهامة والرجولة والنخوة في نفس الزوج واعترض على السؤال لأنه سؤال صعب على زوجته.
أما كل أسئلة ممارسة الخيانة الزوجية بكل صورها ودرجاتها في حقه فهذا أمر لا يستحق الاعتراض ولا يراه سببا لإحراج زوجته، فكل شيء يهون في سبيل مائة ألف دولار، وللتأكيد على أن شيئا لم يحدث فإن البرنامج ينتهي بشكل درامي والزوجة تذرف دموع التماسيح وهي تقرر الانسحاب وعدم إكمال المسابقة حرصا على مصلحة أسرتها حتى لا تخسر (مائة ألف دولار)، والرجل الشهم يقوم بالقفز فرحا ويحتضن زوجته التي حققت الكثير من أجل أسرتها، ولا نعرف عن أي أسرة يتحدثون؟! وهل يكفي أن يعيش رجل مع امرأة تخونه بكل صور الخيانة حتى يسموا هذه أسرة؟!
هذه بالطبع هي وجبة السم الدسمة، أما الوجبة الخفيفة الفاتحة للشهية والتي تقدم في كل حلقة قبل الوجبة الدسمة فهي ضرب كل مقدس وكل خصوصية.. لا معنى لشيء اسمه الخصوصية أو عدم الجهر بالسوء أو مقدس أو قيمة، كائنة ما كانت، فلا حياة زوجية ولا علاقة بأم ولا علاقة بأبناء ولا حياء من أفعال قبيحة أو مذمومة، فلا ثوابت ولا قيمة عليا ولا مرجعية إلا لكسب المال بأي صورة وبأي طريقة حتى ولو كانت بكشف عوراتنا للناس يطلعون عليها ويستمتعون بالنظر لها.. ما هذا الانحطاط الإنساني.. وإذا كانوا هم قد وصلوا إليه فما الداعي لاستيراده وعرضه علينا في بيوتنا؟! حتى يضيع الحياء تماما.. حتى نفقد إنسانيتنا تماما.. حتى لا يعود لدينا أي قيمة نتمسك بها بتاتا.. هل نحتاج للتدليل على قيمة الستر والحياء وعدم الجهر بالسوء؟!
يا ليته إعلان وفضح من أجل العلاج والتنبيه والإيقاظ؛ ولكن الفضح والإعلان لهتك كل الأستار.. لتسيل كل القيم حتى لا يصبح هناك أي ثابت.. ليصبح كل شيء نسبي حتى كراهية الإنسان.. أن تهتك أسراره وسرائره وفضائحه، وحتى هذا الدافع الإنساني الاجتماعي، وهو الرغبة في الظهور بصورة جيدة أمام الناس وكره الفضيحة.. حتى هذا الدافع يقتلونه.
حقوق إنسان جديدة
فلنبدأ من قناتنا الفضائية العربية ولنتوجه إليها جميعا، فلتصلها آلاف الرسائل من كل نوع؛ إلكترونية ومكتوبة وعلى المحمول، تطلب وقف هذا البرنامج الفاضح لأنه لا قيمة من وراء إذاعته إلا نشر الفاحشة، ولو لم يستجيبوا فلنقاطعهم لنعلمهم أن الجماهير ليسوا قطيعا يتلقون أي شيء يقدم لهم ببلاهة دون فهم للمقاصد.. فلنعلنها رقابة جماهيرية واقعية عملية موضوعية إذا كانت الرقابة قد غابت إلا على كل ما هو سياسي أو يخص الحكم وكراسيه.. فعندها تتحرك أنوف وزراء الإعلام العرب لحماية قيمهم الخاصة، وهى حماية كراسيهم وكراسي أسيادهم الحكام، أما القيم الحقيقية فلن يدافع عنها إلا أصحابها.
ولتكن خطوتنا الثانية هي لهؤلاء المنطلقين دون حدود.. أليسوا يعلنون كل عام تقارير لحقوق الإنسان في كل أنحاء العالم يقيمون فيها ما يتصورونه حقوقا للإنسان من وجهة نظرهم؟! فلماذا لا نفعل ذلك بالمثل ونكون جمعيات لحقوق الإنسان من وجهة نظرنا نرسلها إليهم، وندين فيها انتهاكهم لحقوق الإنسان الأصلية في الحفاظ على آدميته وحقه في البقاء إنسانا لا تهدر كرامته ولا تذبح إنسانيته من أجل المال، وليكن هذا البرنامج الذي ينتهك حق الإنسان في الحفاظ على خصوصيته وأسراره هو البداية.. بداية حقوق جديدة للإنسان إذا لم نحافظ عليها فلن يهدم مجتمع بعينه بل ستهدم حضارة الإنسان؛ لأنه عندها سنكون كالأنعام بل أضل سبيلا، فلندشن حملة إلكترونية نكون نحن فيها المبادرين هذه المرة للدفاع عن حقوق الإنسان.
د.عمرو أبو خليل
إسلام أنلاين 9/7/2008
No comments:
Post a Comment