20 May, 2009

الـحـقـيـقـة

أن يتحوّل الخيال إلى حقيقة. يعني أن تتحوّل أنت من حالِم إلى عامِل. من شاعِر مجرّد يغزل الكلمات ويرسم اللوحات إلى إحصائي عليه أنْ يعرف أنّ النجاح والفشل احتمالان لا ثالث لهما، من ناسك مغرور متيقّن أن الله سيغفر له لأنّه يعبده بإخلاص، إلى مذنب مرتعد لا يعلم أيّ الطريقين يسلك، وكيف يمكنه أن يأخذ قرارًا في نهاية لم يبدأها، وكيف يُنْهي ما بدأ رغمًا عنه. ولا أيّ سبيل يسلك، وكلّ المسالك تحول دون اللوحة التي يريد الوصول إليها في خياله. كرسّام فَقَد، باستيقاظه من النوم، كلّ أدواته، وما زال عليه أن يُبْدِع.





كم أودّ لو أكون في منتهى الصراحة، ولكني لم أتخلّص من رغبة انتزاع الموافقة. كيف للمرء أن يجمع بين الوحشيّة والودّ، بين الاستهتار والمسؤوليّة؟ لم أعد أصدّق نفسي حين تدّعي أنها لا تعبأ بالبحث عن الإعجاب. كذباً أكذب. قد أخلط بين العدوانيّة والاستغناء، لكن العدوانيّة شكل آخر من أشكال استرعاء النظر، بل هي أشدّها أنانية. في الوقاحة عصيان، وفي العصيان فروسيّة، لكنهما هما أيضاً شكلان من أشكال إثبات الذات المسرحيّة

كلّنا أطفال أمام أوجاعنا، نفتقد من يحتوينا برقة ويَعِدنا بالخير القادم والبهجة التي تنتظرنا في الأيام التي تختبئ خلف الستار، يوحي لنا بذلك بكامل ثقة، حتى وإن كان الخطر يكمن خلف الباب، عليه ألا يخبرنا بذلك، بل يهدهدنا حتى ننام، فنتيقّن أنّه قادر على صنع المعجزات، تملأنا ابتسامة رضا راحلين عن أرض الحقيقة إلى دنيا أخرى تخضع لقوانين الطفل وحده، لكلّ طفل صانع المعجزات الخاصّ به.


أنْ تحاول تحقيق حلمك يعني أن تجيد الطهي فجأة دون قضاء الوقت الكافي كي تتعلّمه، فنحن أباطرة في أحلامنا! تماما كزبون المطعم الفاخر الذي يطلب فيجاب طلبه فورًا، فتجد كلّ ما تمنيتَ دون عناء على أكمل وجه وأبهى صورة، وإنْ لم يعجبه شيء رفع شكواه للمدير.. بينما في الحقيقة عليك أن تجيد خلط المقادير جيّدًا ومراقبة اللهب المشتعل بانتباه كيلا تفسد حيـاتـك ويغادرك الاشتهاء بعد حادث اصطدام مروّع بالواقع !


قد لا أفرح لفرحِ راشدٍ ولكنّي لا أستطيع أن أظلَّ غير مبالٍ أَمامَ وجعِ طفل، ومَن يتأثّر للطفل ويشعر بالرغبة في إنقاذه أو حمايته لا بدَّ أن تتدرّج به الشفقة إلى الانعطاف لا على الراشدين فحسب، بل على جميع الكائنات. أصفى ما في الإنسان الرقّة وأرفع ما في الرقّة عناقُها للآخر أكثر ممّا قد يعانق نفسه. الرقّة نافذة يدخل منها نسيم البهاء والخَلْق، نسيمُ الشعرِ والموسيقى، نسيمُ العطاء والفداء

الإنسان مسكين، مخلوق ليقلق، يموت دون أن يشبع من الحياة، يخطئ ويكذب، يَستغلّ ويُذِلّ، لكنه لا يستحقّ أن يقال له «تستاهل!». ولا أن يُعامَل كمائت. طبعاً هو مائت، ولكنه لا يستحقّ أن يعامَل كمائت. أو ليُعامل كمائت بمعنى استحقاقه الحبّ أكثر لأنّه مائت.






لم يعد هذا العصر يسمع موسيقى جميلة إلّا أحياناً في السينما. إمّا الضجيج وإمّا الفراغ. نسينا أن الأشياء إيقاعات. وتحت كلّ أشكال الموسيقى يندرج رمل الشاطئ بذهبه الرتيب ينتظر زيارات الموج.

موجةُ هدهدةٍ تداعب الرمل المسفوح على أَرَقِه. موجات غَزَل. موجات حنين إلى مجهول تنبثق من حيث لا يدري صاحبها كيف كانت ستظهر. سلِ الموسيقى، الموسيقى التي تُسلّمها كيانك بلا تَحفُّظ، التي تتمنى لو كان لك أكثر من كيان لتسلّمها إيّاه، سَلْها ما وراءها، تعرفْ ما وراءك. وحدها، هذه الشِعْر الغاسل، المتبادَل بلا كلمات، هذه الشِعْر المخلوق مع المخلوق في المهد، وحدها تملك الجواب


من قال أنّ على المرأة أن تتحرر لابدّ رجلٌ لم يقع في الحبّ أبدًا، أو ربما خانته حبيبته فأراد أن يحرّرها منه، أن يُحرر نفسَه المسكونة فيها، منها ! أنْ يخلّص قلبَه من قبضتها، وما آمنتْ بدعوتَه إلا امرأة عذراء الـقـلـب، لم تعرف معنى التحرر الحقيقي. لم تعرف أنّ الحريّة لا تكون دون جناحين. وأنّ قمّة التحرّر عندما تتّسق حركتيهما معًا، لا أن نقطع الطائر من منتصفه، ونقول أنّه حـرٌ الآن !
امرأة - بالتأكيد - لم تفهم معنى أن تسند رأسها إلى صدر حبيبها مغمضة العينين، لم تضمّه إلى صدرها حُرّةً من كلّ ما سوى سعادتهما.





كل عام وأنت في قلبي، كما أنتَ، أميرًا متوّجًا تتمناه عيناي كثيرًا ويعزّ عليّ فـقـده. يسألني قلبي بألم عن سرّ حبي لتعذيب نفسي، ولا أجد جوابًا، سوى أن أحبّك أكثر. وكأنني أعزيه في غيابك، اختلفوا حول الغياب. هل يكون أصعب إن كان هو الأصل، أم أنّه أقسى إنْ كان بعد وصال، فـلـكأنّني أخشى أن يُنْهِي بعض حضورك عذابًا بالفقد، ليبدأ عذابٌ بالحنين. ولستُ أعرف الصبر في شيمي وأخلاقي. فأبقى ما بين مدّ وجزر، أسابق الدنيا أحيانًا وتسابقني أحايين. وأخسر دائمًا في النهاية. وحدي أفقدك. وحدي أفتقدك. بقدر ما أحمل لك. وما سوف أحمل لك.





وأيًا كانت الحقيقة، فإنّها حتمًا بائسة




النصوص المقتبسة لأنسي الحاجّ


No comments: