18 May, 2009

ذاكرة للنسيان

من المنام يخرج منام آخر: هل أنت في خير، أَعني هل أنت حيّ؟
كيف عرفت أنني كنتُ أضع الآن رأسي على ركبتيك وأنام ؟
- لأنك أيقظتني حينَ تحركتَ في بطني. أدركت أني تابوتك،
هل أنت حيَ ؟ هل تسمعني جيداً ؟
- هل يحدث ذلك كثيراً : أن يوقظني من المنام منام آخر
هو تفسير المنام ؟
- هاهو يحدث لي ولك .. هل أنت حيّ ؟
- تقريباً
- وهل أصابتك الشياطين بسوء ؟
- لا أعرف , ولكن في الوقت متسعاً للموت
-لا تمُت تماماً
- سأحاول
-لا تمت أبداً
-سأحاول
-قل لي : متى حدث ذلك ؟
أعني متى التقينا , متى افترقنا؟
- منذ ثلاثة عشر عاماً
- هل التقينا كثيراً ؟
- مرتين : مرة تحت المطر , ومرةً تحت المطر وفي المرة الثالثة لم نلتق .
سافرتُ . ونسيتكِ . وقبل قليل تذكرت , تذكرت أني نسيتكِ
كنتُ أحلم !
- وهذا ما يحدث لي .. كنتُ أحلم. ولقد حصلت على رقم هاتفك من صديقة سويدية
قابلتك في بيروت . أتمنى لك ليلة سعيدة , لاتنس أن تموت , ما زلت أريدك
وعندما حيا ثانية ,أُريدك أن تكلمني , ياللزمن ..
ثلاثة عشر عاماً . لا . لقد حدث ذلك الليلة
أتمنى ليلة سعيدة ...



الساعة الثالثة .. فجر محمول على النار . كابوس يأتي من البحر
ديوك معدنية .. دخان .. حديد يعدّ وليمة الحديد السيدّ !
وفجر يندلع في الحواس كلها قبل أن يظهر وهدير
يطردني من السرير ويرميني في هذا الممر الضيق
ولا أريد شيئاً , لا أتمنى شيئاً ولا أقدر على إدارة أعضائي
في هذا الاضطراب الشامل لاوقت للحيطة
ولا وقت للوقت , لو أعرف فقط لو أعرف كيف أُنظم
زحام هذا الموت المنصب لو أعرف كيف أُحررالصراخ
المحتقن في جسد لم يعد جسدي من فرط ما حاول أن ينجو في تتبع
فوضوي القذائف .. كفى .. كفى - همستُ لأعرف إن كان في وسعي
أن أفعل شيئاً يدلني عليّ .. !


ويشير إلى مكان الهاوية المفتوحة من جهات ست لا أستطيع أن استسلم
لهذا القدر ولا أستطيع أن أُقاومه
حديد يعوي فينبح له حديدٌ آخر ,
حُمى المعان هي نشيد هذا الفجر .


لو استراح هذا الجحيم خمس دقائق وليكن من بعيد ما هو بعد
خمس دقائق أكاد أقول : خمس دقائق فقط أعدّ خلالها عُدتي الوحيدة
ثم أتدبر موتي أو حياتي ,
خمس دقائق هل تكفي ؟ نعم .. تكفي لأتسرب من هذا الممر الضيق
المفتوح على غرفة النوم , المفتوح على غرفة المكتب ,
والمفتوح على حمام لا ماء فيه والمفتوح على المطبخ
الذي أتحفز لدخوله منذ ساعة ولا أستطيع .. لا أستطيع أبداً .



نمتُ قبل ساعتين .. وضعتُ قطعتي قُطنٍ في أُذنيّ ,
ونمت بعدما استمتعتُ إلى نشرة الأخبار الأخيرة ,
لم تقل إني ميت , معنى ذلك أنني حيّ ..
تفقدتُ أعضاء جسمي فوجدتها كاملة : عشر أصابع تحت
عشر أصابع فوق ..عينان .. أُذنان .. أنف طويل
اصبع في الوسط وأما القلب فانه لا يُرى ولا أجد ما يشير إليه
سوى قدرتي الخارقة على إحصاء أعضائي ومسدس
ملقى على أحد رفوف المكتبة .. مسدس أنيق , نظيف ,
لامع , وصغير الحجم بلا رصاص .. أهدوني مع المسدس علبة
رصاص لاأعرف أين خبأتها منذ عامين خوفاً من حماقة ,
خوفاً من فورة غضب طائشة , خوفاً من رصاصة طائشة
إذن أنا حيّ , وبتعبير أدق : أنـا موجـود ..



لا أحد يستمع إلى الرجاء المرفوع على الدخان : أُريد خمس دقائق , لأتمكن من وضع هذا الفجر أو حصتي منه، على قدميه ومن التأهب للدخول في هذا اليوم المولود من عويل , هل نحن في آب ؟ نعم نحن في آب وتحولت الحرب إلى حصار
أبحث في الراديو المتحول إلى يد ثالثة , عما يحدث الساعة فلا أجد شاهداً ولا خبراً
فالراديو نائم .

لم أعد أتساءل متى يتوقف عواء البحر الفولاذي أسكن على الطابق الثامن
في بناية تغري أي صياد بالاصابة , فما بالك بأسطول حربي يحّول البحر
إلى أحد مصادر جهنم ؟ واجهة البناية الشمالية كانت تُمتع سكانها بمشهد
ما لسقف البحر المتجعّد , لأنها واجهة من زجاج
والآن انقلبت إلى عراء المصرع , لماذا سكنتُ هنا ؟
ما هذا السؤال الأحمق !
فمنذ عشرسنين وأنا أسكن هنا ,
ولا اشكو من فضيحة الزجاج .


ولكن كيف أصل إلى المطبخ ؟
أريد رائحة القهوة ! لا أريد غير رائحة القهوة
ولا أُريد من الأيام كلها غير رائحة القهوة
رائحة القهوة لأتماسك .. لأقف على قدمي .. لأتحول من زاحف إلى كائن !
لأوقف حصتي من هذا الفجر على قدميها .. لنمضي معاً
أنا و .. هذا النهار، إلى الشارع بحثاً عن مكان آخر ..


كيف أذيع رائحة القهوة من خلاياي .. وقذائف البحر تنقض على واجهة المطبخ المطل
على البحر لتنشر رائحة البارود ومذاق العدم ؟
صرت أقيس المسافة الزمنية بين قذيفتين ثانية واحدة .. ثانية واحدة أقصر من المسافة
بين الزفير والشهيق , أقصر من المسافة بين دقتيّ قلب ..
ثانية واحدة لا تكفي لأن أقف أمام البوتوغاز الملاصق لواجهة الزجاج المطلة على البحر
ثانية واحدة لا تكفي لأن أفتح زجاجة الماء , ثانية واحدة لا تكفي لأن أصب الماء في الغلاية
ثانية واحدة لا تكفي لإشعال عود الثقاب .. ولكن ثانية واحدة تكفي لأن أحترق ...


أقفلتُ مفتاح الراديو لم أتساءل إن كان جدار الممر الضيق يقيني فعلاً مطر الصواريخ
ما يعنيني هو أن ثمة جداراً يحجب الهواء المنصهر إلى معدن يُصيب اللحم البشري
بشكل مباشر أو يتشظّى أو يخنق وفي وسع ستارة داكنة - في مثل هذه الحالات-
أن توفر غطاء الأمان الوهمي فالموت هو أن ترى الموت .


أريد رائحة القهوة , أريد خمس دقائق .. اريد هدنة لمدة خمس دقائق من أجل القهوة !
لم يعد لي من مطلب شخصي غير إعداد فنجان القهوة
بهذا الهوس حددّت مهمتي وهدفي توثبت حواسي كلها في نداء واحد واشرأبت عطشي
نحو غاية واحدة : القهوة .
والقهوة لمن أدمنها مثلي هي مفتاحُ النهار
والقهوة لمن يعرفها مثلي هي أن تصنعها بيديك , لا أن تأتيك على طبق
لأن حامل الطبق هو حامل الكلام.


والقهوة الأولى يفسدها الكلام الأول لأنها عذراء الصباح الصامت
الفجرُ أعني فجري نقيض الكلام ورائحة القهوة تتشرب الأصوات
ولو كانت تحية رقيقة مثل " صباح الخير " وتفسد ...



لذا , فإن القهوة هي هذا الصمت الصباحي الباكر المتأني
والوحيد الذي تقف فيه وحدك مع ماء تختاره بكسل وعزلة
في سلام مبتكر مع النفس والأشياء وتسكبه على مهل
وعلى مهل في إناء نحاسي صغير داكن وسري اللمعان أفر مائل إلى البني ,
ثم تضعه على نار خفيفة آه لو كانت نار الحطب ...


ابتعد قليلاً عن النار الخفيفة لتطل على شارع ينهض للبحث عن خبزه منذ تورط القرد بالنزول
عن الشجرة وبالسير على قدمين , شارع محمول على عربات الخضار والفواكه
وأصوات الباعة المتميزة بركاكة المدائح وتحويل السلعة إلى نعت للسعر ,
واستنشق هواء قادماً من برودة الليل ثم عُد إلى النار الخفيفة -
آه لو كانت نار الحطب - وراقب بمودة وتؤدة علاقة العنصرين :
النار التي تتلون بالأخضر والأزرق
والماء الذي يتجعد ويتنفس حبيبات صغيرة بيضاء تتحول إلى جلد ناعم ,
ثم تكبر .. تكبر على مهل لتنتفخ فقاعات تتسع وتتسع بوتيرة أسرع وتنكسر !
تنتفخ وتنكسر عطشى لالتهام ملعقتين من السكر الخشن الذي ما ان يداخلها
حتى تهدأ بعد فحيح شحيح لتعود بعد هنيهة إلى صراخ الدوائر المشرئبة
إلى مادة أخرى هي البُن الصارخ،
ديكاً من الرائحة والذكورة الشرقية ...


أبعد الإناء عن النار الخفيفة لتجري حوار اليد الطاهرة من رائحة التبغ
والحبر مع أولى إبداعاتها مع إبداع أول سيحدد لك منذ هذه الهنيهة,
مذاق نهارك وقوس حظك , سيحدد لك إن كان عليك أن تعمل أم تجتنب
العلاقة مع أحد طيلة هذا اليوم فإن ما سينتج عن هذه الحركة الأولى وعن
إيقاعها وعما يحركها من عالم النوم الناهض من اليوم السابق وعما
يكشف من غموض نفسك سيكون هوية يومك الجديد .

لأن القهوة , فنجان القهوة الأول هي مرآة اليد
واليد التي تصنع القهوة تشيع نوعية النفس التي تحركها وهكذا ...
فالقهوة هي القراءةُ العلنية لكتاب النفس المفتوح .. والساحرة الكاشفة لما يحمله النهار من أسرار


ما زال الفجر الرصاصي يتقدم من جهة البحر على اصوات لم أعرفها من قبل ,
البحر برمته محشوّ في قذائف طائشة
البحر يبدل طبيعته البحرية ويتمعدن
أللموت كل هذه الأسماء ؟ قلنا : سنخرج , فلماذا ينصب هذا المطر الأحمر -الأسود - الرمادي
على من سيخرج وعلى من سيقى من بشر وشجر وحجر ؟
قلنا : سنخرج قالوا : من البحر ؟ قلنا : من البحر ,
فلماذا يسلحون الموج والزبد بهذه المدافع ؟
ألكي نعالج الخطى نحو البحر ؟
عليهم أن يفكوا الحصار عن البحر أولاً .. عليهم أن يخلوا الطريق الأخير
لخيط دمنـا الأخير , وما دام الأمر كذلك
وهو كذلك ... فلن نخرج ... إذن، سأُعدّ القهــوة ..



الشاعر الراحل
محمود درويش
من كتاب ذاكرة للنسيان
عن منتدى الساخر


2 comments:

V.Hayat said...

من اجمل ما اختارتى لمحمود درويش

وخاصة لو كان من ذاكرة النسيان

تحياتى

77Math. said...

شكرا لك