22 July, 2011

هكذا قرأتُ زرادشت

زرادشت؛ رجلٌ أراد أن ينير نفوس الناس؛ فرهن وقته ليبثَّ الحكمة فيهم بمحاضراته وكلماته النيِّرة! كانوا يستهزئون منه في البدء؛ ومن ثم؛ وبطبيعة الوقت والترحال؛ أصبح له تلاميذ.

*

انتهيتُ مؤخرًا من كتاب نيتشه "هكذا تكلَّم زرادشت" ترجمة: فليكس فارس وتقديم: عيسى الحسن... أخيرًا عرفتُ من هو زرادشت؛ كنتُ أعرف اسم الكتاب وأتعجب عن زرادشت هذا الذي نقل نيتشه كلامه؛ إلى أنْ عرفتُ الحقيقة.

إنَّه الاسم المستعار لنيتشه!

نيتشه هو الذي كان يرى أنَّه يقدّم للناس خلاصة الحكمة في كتابه هذا. يكتب بروح شاعر وفيلسوف؛ وبرغم أنَّه قد يبدو أحيانًا وكأنَّه يدعو لدحر العاطفة والعمل بالعقل فقط؛ إلا أنَّ كلامه ينضح بأهمية الروح، التعاطف والإشفاق.
فكأنَّه يصف طرفي الإنسان في تعاملاته؛ ووجوب حصوله على الغِلْظَة واللين معًا.
زرادشت؛ الذي يرافقنا طيلة الكتاب رجل ترك موطنه وأصبح يجول في الأرض باحثًا متأملا؛ لا يؤمن بالله؛ ويتعجب ممن يفعلون؛ ويرى أنَّ الدين وسيلة الضعفاء للحياة؛ الله، المسيح، الرهبان، الكنيسة، وفكرة الصلب من المفردات التي تثير سخريته لأقصى درجة؛ ومع أنَّه نشأ في بيئة دينية؛ إلا أنَّه كان يرفض الدِّين تمامًا؛ ومن وجهة نظري – بعد قراءة الكتاب – أنَّه يرفض الخنوع لفكرة تجعله يرفض مواجهة الحياة أو الجَلَد بحجَّة أنَّك تطلب التعويض من الإله بسبب إيمانك بهذه الفكرة؛ وهو ما يوجد لدى كثير من الذين يفهمون دينهم بشكل خطأ؛ الإسلام على الأقل؛ فيقولون لك "اصبر واحتسب" و"لك الأجر والثواب"؛ خالطين بين الصبر على ما لا يمكن تغييره بحال؛ وبين واجب العمل على تغيير ما يمكن تغييره.
يريد زرادشت أنْ يرتقي البشر ليصبحوا متفوقين، ويرى أنَّهم على ماهم عليه من العوام، إلا من جاهد نفسه – ويعظّم في ذلك من شأن جهاد النفس – لأجل أن يصبح إنسانًا متفوقًا راقي التفكير والسلوك.
وتختلف نصائحه بين النصائح المباشرة؛ وبين نصائح أخرى قالها له بعض من قابلهم أثناء ضربه في الأرض.
يتحدث عن معاني روحانية ويجيب بعض الأسئلة الثقيلة على الروح؛ يدعو إلى الإصغاء إلى صوت الجسد لأنَّه لا يكذب؛ يعتزَّ بأرضيتِه بدلا من ادعاء السماويَّة. أن يتصالح الإنسان مع نفسه وأن يقبلها كما هي ويحاول ترقيتها حتى يصبح إنسانًا كاملا، والإنسانية لديه لا تعني الملائكية، بل تعني الاعتراف بترابية الإنسان وجهاده لنفسه حتى يصل إلى أعلى رقيّ إنسانيّ ممكن.

"يا زرادشت؛ إنَّ ثمارك قد نضجت ولكنَّك لم تنضج بعد لتقطفها، لذا وجب عليك أن تعود لوحدتك حتى تصير ناضجًا."
يقول: "لتكن فضيلتك أسمى من أنْ تستخفّ بالأشياء عند تحديدها" في دعوةٍ إلى عدم تسمية الأشياء بغير مسمياتها فينتشر ما يطلق المرء من تعاريف خاطئة!.
يقول أيضًا:"إنني أبغض كل قارئ كسول – عن الكتابة يعني - لأن من يقرأ لا يخدم القراءة بشيء، وإذا مرّ قرنٌ آخر على طغمة من القارئين فلا بد من أن تتصاعد روائح النتن من التفكير! إذا أعطي لكل إنسان الحق في أن يتعلم القراءة، فلن تفسد الكتابة مع مرور الزمن فحسب، بل إنَّ الفكر نفسه سيفسد أيضًا."
ويقول:"تريدنا الحكمة شجعانًا لا نبالي بشيء، تريدنا أشداء مستهزئين، لأنَّ الحكمة أنثى، ولا تحبّ الأنثى إلا الرجل المكافح الصلب"

*

قال: "لم تبلغ المرأة بعد ما يؤهلها للوفاء كصديقة، فما هي إلا هرة، وقد تكون عصفورًا، وإذا هي ارتقت أصبحت بقرة".
عندما وصلتُ لهذا المقطع ضاقت نفسي من نيتشه ومن الكتاب؛ ظنًا أنَّه يحتقر المرأة بشكل خاص؛ ثم بعدها مباشرةً؛ وجدتُ أنَّه يحتقر الرجال أيضًا؛ فخجلتُ من نفسي أنْ أضيق بمن يشبهني في حديثه. ليس من حقي أن أضيق به وقد طاح في الجميع! والمساواة في الظلم عدلٌ كما يقولون!
ولا أدري بعدُ – صدقًا – ما يوجد في البقرة يجعلها أرقى من الهررة والعصافير!
قال بعدها: "ليست المرأة أهلا للصداقة، ولكن ليقل لي الرجال من هو أهل للصداقة بينهم؟ إنَّ فقر روحكم وخساستها يستحقان اللعنة أيّها الرجال، لأنَّ ما تبذلونه لأصدقائكم يمكنني أنْ أبذله لأعدائي دون أن أزداد فقرًا"
ويقول – فيما يبدو للجميع – : "إنكم لا تتخذون إلا الأصحاب؛ فمتى تسود الصداقة بينكم؟"

*

يقول نيتشه: "لقد مات جميع الآلهة فلم يعد لنا أمل سوى في ظهور الإنسان الكامل"؛ فهل يعني أنّه كان هناك آلهة ثم ماتوا؟ وهل يعني – أم أنها ثقافتي تحكم – أنَّ الاتصال بين السماء والأرض قد انتهى وآل مآل الأرض للأقوى من البشر؟

*

ورغم كلّ ما يبدو على زرادشت من الثقة والعلوية التي يتحدث بها ناصح معلِّم إلى تلاميذه؛ فقد قال لأتباعه أنّ كلامه ونصائحه كلّها ربما تكون خطأ؛ وأنّه لا دليل على صحة ما يقول أو أنّه هو نفسه قد يغير رأيه فيما قال يومًا ما. ولا أدري إن كان هذا تواضعًا؛ أم أنَّه انطلاقًا من شعوره بأنَّه الباحث عن الحقيقة الذي يريد للجميع أن يبحث معه لا أن يأخذوا كلامه كأمر مسلَّم به؛ فهو بحاجة إلى من يناقشه لا من يؤمن به دون تشكيك.
يقول: "اللطف لا ينفصل عن مكارم من بلغوا الأوج بتفكيرهم"
ويقول: "إن بين الإفراط والتفريط قيد أنملة، فلا تحتقروا هذا المدى لأنه بعيد وإن قصر"
ويقول: "ما من جمال إلا في تنازل القوة إلى الرحمة"
ويقول: "إن السعادة تتأثرني لأنني لا أتأثر بالنساء. وهل السعادة إلا امرأة؟"
يعظِّم نيتشه من أهميّة الفرد؛ وتحقيق رغباته هو وإرادته هو؛ ويشدد على رفض تنفيذ الأشياء في قطيع دون تفكير فيما يرغب فيه الفرد أولا؛ ويشدد على أهمية أن يحب المرء نفسه أولا قبل أن يحب غيره.

*

يقول عن الزواج: "انتبهوا لكل زواج تعقدونه واحذروا العقود الفاسدة لأنكم إذا تسرعتم بها لا تجنون غير حلِّها، على أن فسخ الزواج خير من تحمله بالمصانعة والمخادعة".
ويقول: "ليس ما فُرِض عليكم أن تتناسلوا وتتكاثروا فحسب، بل عليكم أن ترتقوا أيضًا، فلتكن جنَّة الزواج مدخلكم إلى المرتقى".

الكتاب يستحقّ القراءة. لو أنَّك من المهتمين بسبر أغوار النفس البشرية. والتأمّل فيها.. جدير بالذكر أنَّ نيتشه أصيب بالجنون في نهاية عمره وبقي وقتًا طويلا في مصح نفسي؛ وبحسب ويكيبيديا فإنَّ أمه أخرجته منها ليمكث معها حتى فارق الحياة. ويوعز المحقق ذلك إلى أنَّه لم ترض به امرأة أبدًا؛ فلم يتزوج ولم يسكن إلى امرأة أو تسكن إليه امرأة، ويقول:"لو وجد نيتشه امرأة تؤمن به حتى النهاية لأنقذته من الجنون" لأنّ العقل البشري يعمل بطريقة مختلفة عندما يكون وحيدًا، فكيف بعقل كعقل نيتشه؟
الوِحدة؛ هي سبب قوله:"الآن لم يعد أحد يحبني، فكيف أستمر في حبي للحياة؟"؛ "حتى الضوضاء تكون عزاء بالنسبة للإنسان الوحيد"؛ "المتوحد يلتهم نفسه في العـزلة ومع الحشـود تلتهمـه أعـداد لا متناهية" وأخيرًا: "إني أشتاق إلى الكائنات البشرية وأبحث عنهم، ولكنني دائما أجد نفسي فقط، مع أنني لم أشتاق إلى نفسي، لم يعد يأتي أحد إلي، ولقد ذهبت إليهم جميعا ولم أجد أحدًا".

4 comments:

الرسام الواقعي said...

أري :"لو وجد نيتشه العقيدة
الإسلامية الصحيحة في وقته لأنقذته من الجنون".

المقال التالي مهم:

http://islamguards.com/view/topics/656/%EF%BF%BD%EF%BF%BD%EF%BF%BD%EF%BF%BD%EF%BF%BD-%EF%BF%BD%EF%BF%BD%EF%BF%BD-%EF%BF%BD%EF%BF%BD%EF%BF%BD%EF%BF%BD%EF%BF%BD%EF%BF%BD%EF%BF%BD-%EF%BF%BD%EF%BF%BD%EF%BF%BD%EF%BF%BD%EF%BF%BD%EF%BF%BD%EF%BF%BD%EF%BF%BD.html

له مقولة مهمة:الإسلام يحتاج رجال.كتاب :ما وراء الخير و الشر.

مقال جميل،عجبني تحليلك

77Math. said...

ربما كان الإسلام لينقذه؛ وربما لا.. الله أعلم.

على كلّ؛

شكرًا لمرورك.

aissam bana said...

تقديم جميل و تحليل رائع أهنأك أختي على ذلك .
على العموم أردت إغناء الموضوع بهذه المقالة :

http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%87%D9%83%D8%B0%D8%A7_%D8%AA%D9%83%D9%84%D9%85_%D8%B2%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AF%D8%B4%D8%AA

Nazek said...

احسنتي
اعجبني طرحك في مدونتيك
مشاركتنا هذه القراءات الجميله حول الروح والنفس تقودنا الى معرفه النفس التي هي المدخل لمعرفه الرب داخلنا
دمتي بخير