25 February, 2012

في المصافحة؛ تأملات


لا شيء يثير ضيقي أكثر من النَّاس التي لا تراعي حدود المساحات الشخصية لكلّ إنسان؛ فتصافح وتقبّل دونما مراعاة لنفسية أو تقبّل الشخص الآخر، المفعول به!

ما الذي سيضيفه لي مصافحة أحدهم – رجلا كان أو امرأة - بيده أكثر من إيماءته لي بالتحيَّة؟

الشيء الوحيد الذي أستعلمه من مصافحة أحد هو معرفة المستوى الاجتماعي للشخص، وظيفته أيضًا؛ فإن كانت اليد ناعمة عرفتُ أنّ صاحبها يعيش حياة رغيدة، أعرفُ – إن كانت امرأة – أنَّ لها زوجًا كريمًا يجلب لها من يقوم عنها بالأعمال الشاقَّة التي تسبب قسوة الجلد وخشونته.. وأرجو في داخلي أن يكون لي زوج كريم لئلا تصبح يدي خشنة، وإن كان رجلًا عرفتُ أنه لا يعمل بيديه، أما إذا صافحتُ رجلا ووجدتُ يده ناعمة جدًا عرفتُ أنّ عليّ ألا أقدّمه لأخي! وهكذا!

ولأنني طالما أردتُ العمل كمحقّقَة في الشرطة، أو عميل سرّي يعرف القاتل فور أن يراه، حاولتُ اكتشاف حسناتِ ما لا أحبّ، فعندما يحرجني أحدهم ويصافحني، فإنَّه يقول لي تلقائيًا: أريدك أن تعرفي كيف أعيش!

من ناحية أخرى؛ كنت أحيانًا أرى نساءً جريئات في رفض المصافحة أكثر منّي؛ رأيتُ إحداهنّ مرة تجذب كمّ قميصها كي لا تحرج الرجل الذي بدأها السلام.

الموقف جعلني أتساءل؛ رغم أنني لا أحبّ تبادل المصافحات والقبلات مع النساء أصلا، إلا أن أوّل ما خطر ببالي أنّها لو قالت له: آسفة لا أصافح الرجال، لكان أجمل بها مما فعلَتْ!

فما فعلتْه – والرجل زميلها أستاذ الجامعة – تخوينٌ لسلامة طويّة الرجل، وإن كانت لا تقصِدُ هي ذلك بردّة فعلِها، إلا أنَّها في النهاية لا تعني شيئًا آخر.

وذلك أرجَعَني لنقطة البداية؛ ماذا قال الله تعالى ورسوله في الأمر؟

ووجدتُ أنَّ الفقهاء أنفسهم منقسمون إلى قسمين، قسم يبيح المصافحة، وقسم يحرّمها، وقسم – وهو الأكثر - يرى أنّها مباحة إلا إذا كانت للتلذذ والشهوة!!

والمقالات التي تستعرض الأدلة لتثبت التحريم موجودة، كما هي المقالات التي تستعرض نفس ذات الأدلة لتثبت الإباحة. وهنا لي وقفة، وسامحوني فسأعرض أقلّ عدد من الشواهد، وسأترك مقالات الطرفين في نهاية مقالي.

أولا: قال تعالى:"وقد فصَّل لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ"، وبداية الآية تستنكر تحريم ما أحلّ الله "وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ"، قد يعارضني أحد، أنَّ هذه الآية المقصود بها أنّ الله بيّن الحرام من الأطعمة، وليس الحرام إطلاقًا، وهو سؤال وجيه ومن حقِّه – كباحث عن الحقّ – أن يطرحه، وسأجيبه بقولي: أين الآية التي تحرّم مصافحة النساء للرجال، والعكس؟

ثانيًا: خطر ببالي تساؤل مهمةٌ جدًا إجابته، متى تكون مصافحة الرجال للنساء بدافع التلذذ والشهوة؟
1. خاطب لم يعقد بعد وكلّما زار خطيبته سلّم عليها، وأبقى يديها طويلا في يديه.
2. عاشق مراهق في الجامعة يقابل حبيبته ويسلّم عليها ولا يفلت يديها!
3. عجوز فاجر يسلّم على النساء أينما رآهنّ!
4. زميل عمل يصرّ على السلام على زميلته كلما رآها! – لم تحدث معي ولم أسمع عن هذه الحالة أبدًا، لكنها واردة!-

ولا أجد أمثلة أخرى.

ولا أجد فيما عدا ما سبق – حين يتحدثون عن التحريم – أنهم يتحدثون عن عظيم، فلا يوجد من يسلّم بالأيدي في محيط العمل أو الزمالة، بل هي مواقف معدودات من حين لآخر، وهؤلاء تكون مصافحتهم بلا موعد، ولم يخطط الرجل "الشهواني المريض!" لها قبلها بسنين لكي – عندما يأتي ليمدّ يده – أمدّ له كمّ قميصي باستياء وكأنّني بهذا انتصرتُ ومنعت عنه الإثارة التي كان ينتظرها!

مثال آخر قميء حدث أمامي، أحدهم قال لإحدى الزميلات أمامي:"كنتُ لأسلّم عليكِ لكنني متوضئ"!
ونعود مرّة أخرى للأدلة والشواهد، وأعني بهما الكتاب وصحيح السنّة، فلا نجد ما يقول ذلك، ونجد أنهم يستشهدون بآية الوضوء "أو لا مستم النساء"، سلبوا الأمّة - رجالا ونساء- عقولها، وأفقدوها طهورها بمصافحة.

ذكر ابن تيمية في موضع آخر: أن الصحابة تنازعوا في قوله تعالى: "أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء" فكان ابن عباس وطائفة يقولون : الجماع، ويقولون : الله حيي كريم يُكَني بما شاء عما شاء، قال : وهذا أصح القولين وقد تنازع العرب والموالي في معنى اللمس: هل المراد به الجماع أو ما دونه؟ فقالت العرب : الجماع، وقالت الموالي: هو ما دونه، وتحاكموا إلى ابن عباس فصوب العرب، وخطأ الموالي.[1]

ثالثًا: قلتُ بأنّ من يحرّم ومن يحلل يستخدم نفس الأدلة، وهذا مما برعت فيه اللغة العربية على مدار أكثر من ألفِ سنة، ولا عجب فهي لغة الغواية كما أعتقد، وأقول دومًا، وطالما احتملتِ الشواهد الأمر وضدّه فقد بطل استخدامها كدليلِ جزْمٍ على أحد الأمرين.

كما أنَّ لدينا قاعدتين أصوليتين في الفقه؛ أولاهما: أنّ الأصل في كلّ الأمور الإباحة؛ ثانيهما: قاعدة فقهية تعلّمتُها من رسول الله عليه الصلاة والسلام حين قال: " مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ" البخاري ومسلم
وقوله: "إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودَاً فَلا تَعْتَدُوهَا وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلا تَبْحَثُوا عَنْهَا". حديث حسن
فلماذا لا نعتبر هذه المسألة، كما مسألة الغناء – هذه قصة أخرى- من المسكوت عنها؛ فنسكت؟
لو أنّ السكوت ليس قاعدة أصولية فيجب عليه حقًا أن يكون.
رابعًا:
ردًا على من يستدل على تحريم المصافحة بأنّ الرسول لم يصافح النساء في البيعة، يلحّ في بالي تساؤل كنحلة مزعجة، كيف لم يخطر ببال أحد من العلماء الأفاضل أنّ السبب في عدم سلام الرسول عليه السلام على النساء هو كثرة عدد النساء؟ وفي المعتاد في أي مكان عندما يقابل الواحد عددًا كبيرًا فإنّ السلام أو العهد أو أيًا كان مناط الموضوع، يصبح شفهيًا باللسان فقط؟ وأنّهنّ جميعًا نساء حديثات عهد بإسلام، فكيف يسلّم على كلّ واحدة بذاتها ويتلو عليها الآيات، ومن ثمّ يجيب عن مسألتها وكلهنّ في التساؤل والعهد والحدث الجلل سواء؟

خامسًا:
أختم بقول الشاطبي:
"ولذلك لا تجد فرقةً من الفرقِ الضالة ولا أحد من المختلفين في الأحكام لا الفروعية ولا الأصولية يعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر من الأدلة، وقد مرّ من ذلك أمثلة، بل قد شاهدنا ورأينا من الفساق من يستدل على مسائل الفسق بأدلة ينسبها إلى الشريعة المنزهة؛ ...  ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد: وهو الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض، فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها، وعامّها المرتب على خاصّها، ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها المفسر بِبَيّنها، إلى ما سوى ذلك من مناحيها، -إلى أن قَالَ: فشأن الراسخين: تصور الشريعة صورة واحدة، يخدم بعضها بعضاً كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة مثمرة، وشأنُ متبعي المتشابهات أخذ دليلٍ مَا أيّ دليل كان عفواً وأخذاً أولياً وإنْ كان ثم ما يعارضه من كلى أو جزئي، فكأن العضو الواحد لا يعطى في مفهوم أحكام الشريعة حكما حقيقيا، فمتبعه متبع متشابه، ولا يتبعه إلا من في قلبه زيغ ما شهد الله به ومن أصدق من الله قيلا"




 [1] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ج21، ص(223-224)، ط الرياض


1 comment:

Zahraa Ali said...


وسعتي مداركي لهذا الموضوع ، شكراً لك

=)