31 August, 2011

الحديث المظلوم، الآية المظلومة


"إنَّما هي أعمالكم تُردّ إليكم، كما تكونوا يُوَلَّ عليكم"
يقول مالك بن نبي عن الحديث: "يحذّر فيه الرسول عليه السلام المسلمَ من كل استسلام للأمر الواقع"*، ونستشهد نحن به في السياق الخاطئ، فنجعله حجّة للسكوت عن الحاكم المستبدّ بحجّة أنّ الحاكم السيء دلالة على أنّ الشعب فاسد فالحاكم من الشعب وأخلاقُه أخلاقهم.

تمامًا كما تركنا الآية "لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ"

وأصبحنا نستشهد بجزء منها فقط "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ"، وكان هذا مبرّرا لرفض البعض للثورات العربية؛ قائلين بأنّ الأفراد عليهم أن يتغيروا أولا قبل أن يطالبوا بتغيير الأنظمة الحاكمة.

وليس لديّ سوى إجابة واحدة على هذا المبرر السخيف، لو أنّنا أردنا إصلاح بيت ما، هل سنبدأ بإصلاح الأطفال؟ أم أنّنا سنبدأ بتوعية الآباء، ثم يكون على الآباء إرساء قواعد وقوانين أخلاقية مُلزِمَة لكلّ سكان البيت بحيث ينصلح حال البيت؟

الفرق كبير بين الإصلاح الديني والإصلاح المجتمعي، أوّلما ظهرت الدعوة الإسلامية كدين بدأت بالأفراد واحدًا بعد آخَر لأجل صنع مجتمع مسلم، بينما حين تم إرساء قواعد الدولة الإسلامية في المدينة فإنّ الرسول عليه السلام هو الذي أرسى قواعد وأسسًا سيسير على أساسها المجتمع بادئًا بعملٍ مدني بحت هو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، بلغة اليوم يمكن أن نقول: تكافلا اجتماعيًا للمهاجرين الذين جاؤوا من مكة إلى المدينة لا يملكون شيئًا، وإرساء لقواعد المواطَنَة، وتوزيعًا للثروة بين أهل البلد الأصليين وإخوانهم الوافدين عليهم، حتى لا يصبح المجتمع طبقتين، طبقة من الأغنياء أهل البلد الأصليين، وطبقة من الفقراء الفارِّين من بطش أهلهم.

عودة للآية؛ المعقبات هي الملائكة الموكّلة بكتابة الأعمال كما هو مشهور في التفاسير، ومن سياق الآية يبدو أنّ للملائكة، سواء نفسها أو غيرها، وظيفة أخرى هي حفظ الإنسان أيضًا، وهنا قد يتساءل البعض عن كيفية عملها، وهل فعلا تحفظني الملائكة من السرقة مثلا؟ هذا موضوع ميتافيزيقي آخر تمامًا، المهم الآن، هو أنّ الإنسان سيبدأ بالتغيير فيغيره الله، ثم أتبع ذلك بـ"وإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا مردّ له" أيّ أن الإنسان سيتغير، وبعد ذلك سيصيبه السوء فلا تحفظه الملائكة لأنّ الله أراد به ذلك، والملائكة التي "حفظته سابقًا من أمر الله" لن تستطيع الآن فعل شيء، "فلا مردّ له" وما له من دون الله من وليّ.

الآيات السابقة لهذه الآية مباشرة: "عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ. سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ. له معقّبات .. "

ما العلاقة بين هاته المعقّبات وبين الإنسان؟ أو بينها وبين أعمال الإنسان بالتحديد السرية والجهرية؟ ومتى تكون متواجدة لحفظه ومتى تذهب عنه؟ ما الخطّ الفاصل بين حفظها له من أمر الله وبين عجزها عن ردّ السوء؟ ما آلية عملها فعلا؟ وهل "الهالة" التي تحيط بالمرء ليست مجرّد خرافة؟

الله أعلم.

* كتاب: بين الرشاد والتيه. ص68

21 August, 2011

من سورة الحج

(1)
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ"
المرضع .. هي المرأة التي لديها طفل في فترة الرضاع.
المرضعة.. التي تقوم بفعل الرضاعة الآن ..
نعم.. ستقوم الأم بإبعاد طفلها الذي كان يلتقم ثديها من هول الموقف.
يوم السُكْر بلا مسكرات، لكنّ عذاب الله شديد، رغم أنّ قيام الساعة لا يعني بعدُ حلول العذاب، لكنّ هول الموقف يبدو أنه عذاب في حدّ ذاته، فالإنسان الطبيعي يميل لاستقرار الأمور.

(2)
"ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير"
نعم؛ يمكن أن يجادل المرء في الله، لكن عليه أولا أن يحمل أحد ثلاثة أشياء على الأقل ..
أولا: علم يسمح بأن يكون الجدال في مستوى لائق بما نتحدث عنه، فلا يليق بمن قرأ عدة كتب أن يجادل في الله، وأنا أفرّق هنا كثيرًا بين من يجادل، ومن يتساءل.. فالتساؤل حقّ منذ بدء القراءة .. لكنّ الجدال، يحتاج أكثر من ذلك، يحتاج طلب علم بحق بغرض الوصول للحقيقة، لا لغرض الجدال.
ثانيًا: هدى، وهو ما يأتي بالتأمل أو التجربة أو الضرب في الأرض أو غيرها مما يصل بالإنسان للحكمة التي تتيح له أنْ يناقش الما ورائيات بأريحية نَفْسٍ وتقبّل عقل، وأن يكون الإنسان وصل بخياله مستوى قادرًا على تخطّي المحسوس من الأشياء.
ثالثًا: الكتاب المنير أظنّه نص مقدس من الأسبقين يمكن على أساسه بدء حوار جدلي.
وبشكل عام، كلّما كان موضوع الحوار فوق العادة كلّما كان على أدوات النقاش أن تليق به.

(3)
"وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ"
نقطة واحدة فقط إضافية؛ بعض الناس مكتوب أن تكون إمَّعة لأولئك الذين يجادلون بغير علم يسمحون لأنفسهم بالضلال .. والهداية لطريق واحد .. الجحيم.. "كُتِبَ عليه أنه من تولاه فأنه يضله" في الدنيا، "ويهديه إلى عذاب السعير" في الآخرة.. أي أنّ بعض الناس لا فائدة من محاولة إصلاحهم، فلديهم الدنيا بأكملها ولم يتعظوا، لم يُعمِلوا عقولهم، فقط اتبعوا بعض من لديهم "كاريزما الضلال" إن صحّ التعبير..

(4)
"ومن الناس من يعبد الله على حرف؛ فإن أصابه خيرٌ اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين. يدعو من دون الله مالا يضرّه وما لا ينفعه، ذلك هو الضلال البعيد. يدعو لَمَن ضرُّه أقرب من نفعه. لبئس المولى ولبئس العشير"
لا أريد الحديث عن الذين يعبدون الله وكأنّهم يتعاملون مع رجل أعمال، فإن طابت حياتهم سعدوا ودعوا له بطول العمر والسعة، وإن ضاقت تذمّروا من ضيق يده رغم غناه..
بل لفت نظري "ما لا يضره وما لا ينفعه" ثم "لمن ضرّه أقرب من نفعه" ثم "لبئس المولى ولبئس العشير" ..
وذكّرني بتدرّج السقوط الإنساني عمومًا، في البدء بالتخلِّي عما لا يضرّ أو فعل ما يظنّ أنه لن يؤثر في إنسانيتنا، ثم يتبع ذلك فعل ما تأثيره الضارّ غير مرئيّ، "ضرّه أقرب من نفعه"، ربما على المستوى النفسي، أو في مستوى اللا وعي، ثمّ، وقبل أن ينتبه المرء لنفسه، يكون قد فات الأمر لإصلاح الأمر.
(5)
"من كان يظنّ ألَّن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثمّ ليقطع فلينظر هل يذهبنَّ كيدُه ما يغيظ"
كنتُ أقول: سأدخل الجنَّة حتمًا، لكنّ أفكاري بالتأكيد ستذهب للجحيم. لديّ ثقة بأنّ الله سينصرني، فلا حاجة بي للتجارب السماوية..
لكن، أولئك الذين لديهم الشكوك في نصر الله، وليس النصر هنا بمعنى النصر في الحرب ضد عدوّ، بل النصر بمعنى التوفيق، سداد الخطوة، على المستوى الشخصي القريب الخاص جدًا، في الدنيا والآخرة، بمعنى أن يثق بنفسِه، وأن يثق بقراراته، أن يعرف أنَّ من خلقه سيكون معه دومًا لينصره في كل خطوة من خطواته في الدنيا، وأنّه في الآخرة سيكرمه ويؤيده، لأنه الله الغنيّ الكريم، ولأنّ البديل هنا هو أنّ عليه أن يكيدَ ليُذهِبَ غيظَه بأنْ يحاول اكتشاف السماء! كنايةً عن: عالَم الغيب.
يمكنني أن أعيش حياتي باطمئنان تامّ بهذه الآية فقط، إذا اقتنعتُ تمامًا أنني منصورة في كلّ حال.

"وكذلك أنزلناه آياتٍ بيِّناتٍ وأنَّ الله يهدي من يريد"
يمكنني أن أفهم "إرادة الله" متعلقة بالآية السابقة لها مباشرة، بحيث يكون الذين أراد الله لهم الهداية هنا هم الذين تخلَّوا عن رغبتهم في الوصول إلى أسباب السماء، وعرفوا الله أكثر، بمعنى اهتدوا إلى كينونة الله بما يمكن للإنسان أن يصل إليه، فهي هداية خاصَّة مطروحة في قلوب من أراد الله.

(6)
"ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس"
لا أدري لماذا استوقفتني. هل لأنه فقط "كثير من الناس"؟ بلا تحديد ولا هويَّة، ناس لا تعرفونهم، ناس قد لا ترونهم يسجدون أبدًا؟ لماذا أقول ذلك؟ لأننا لا نرى السماوات والأرض والشمس والقمر .. إلخ وهم يسجدون!
نحن فعليًا لا نرى سجود هذه المخلوقات، ربما نرى أنَّها خارج دائرة إرادتنا فقط. وكأنَّها ذاهلة عنّا بالصلاة لآخر لا نراه.

(7)
"ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقِبَ به ثُمَّ بُغِيَ عليه لينصرنَّه الله. إنَّ الله لعفوّ غفور"
الذين يطلبون التسامح مع جميع أصناف البشر وعدم عقاب المخطئ، والرحمة بـ"كبير السنّ" بعد أن فَجَرَ في شبابه وقوَّتِه وفَسَق، عليهم أن يقرؤوا الآية السابقة جيِّدًا.
هناك أمور تلحّ بشدّة شديدة ولا أستطيع تجاهلها عند سماعها:
أولا: عليك أن تأخذ حقك من الظالم.
ثانيًا: عليك أن تأخذ حقك من الظالم.
ثالثًا: عليك أن تأخذ حقك من الظالم.
رابعًا: اعلم بأنّ أخذك لحقك من الظالم ليس كافيًا لمنعه عن ظلمه.. لأنّه قد يبغي عليك مجددًا، واعلم أيضًا أنّ الله سينصرك لو حصل ذلك، لاحظوا.. هناك تأكيد على النصر الثاني من الله لمن قام بفعل العقوبة المماثلة في المرة الأولى فورًا ولم يسكت عن الظلم.. لم يذكر عون الله في المرة الأولى ولا دفعه لذلك بل قال "ذلك ومن عاقب" مباشرةً، لم يُرجِئ، لم يتعاطف، لم يتخاذل ..

هناك فكرة أخرى، ماذا لو كان الباغي في المرة الثانية شخص آخر مختلف عن الأول؟ بمعنى، (أ) ظلم (ب) فأخذ (ب) حقّه، فاعتدى عليه (ت) لأن ولاءه لـ (أ)؟.."ثُمَّ بُغِيَ عليه" لا تحصر البغي في نفس الشخص أيضًا، قد يكون هو نفس الظالم الأول، وقد لا يكون. فالفاعل هنا مجهول.

ولمن يقول أين الرحمة إذن؟
أجب أسئلتي:
هل من يبغي مرة أخرى على صاحب حقّ أخذه بالقوة يستحق أن يُعفَى عنه بالأساس؟
ألا يكون العفو عمّن يكون الخطأ هو النادر والمستدرك لا القاعدة؟
تخيلوا مثل هذه النفسيات بلا عقاب... لا تحتاجون كثيرًا للتخيل.. انظروا حولكم!
ثم .. "إنَّ الله عفو غفور"؛ لماذا؟ بعد التحريض على عدم المغفرة؟
لا أعرف لها سوى جواب واحد: عليك أن تأخذ حقك، على الله أن يعفو.. لا يحقّ لكم أن تعفو عن ظالم بلا قصاص.

إلا الظّلم في الإسلام.. إلا الظّلم عند الله. هو الشيء الوحيد الذي حرَّمه الله على نفسه قبل أن يجعله بيننا مُحَرَّمًا. فعندما تأخذنا رأفةٌ بالظالمين فهناك خلل عظيم في نفوسِنا.

(8)
"أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوبٌ يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور"
ماذا يقال بعد ذلك؟


05 August, 2011

من سورة محمّد



(1)
" ذلك بأنَّهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم"
ألا يكفي فعل ما يُسخِطَ الله لإحباط العَمَل؟
هل لابُدَّ من ذلك العداء والكراهية الشديدة التي تؤدي لكراهية رضوان الله؟ ولا تكون كراهيةُ رضوان الله إلا بعد عداء الله عداءً شديدًا.؟
الكثير منا يفعلون ما يُسخِط الله لكنَّهم يرِقُّونَ لحالهم، أو يتساءلون إن كان ثمّة سعة لرضا الله، أو أقلّ الأحوال، يعرفون أنَّ ما يفعلونه لا يؤدي إلى الكمال الإنساني.

(2)
"أم حسب الذين في قلوبهم مرضٌ ألَّنْ يُخْرِجَ الله أضغانهم"
أمراض القلوب.. التي لا يعرفها غيرُ خالِقُ القلوب، والذين يؤذيهم الاقتراب من هاتِه القلوب المريضة إلى الحدِّ الذي يصيبهم صديدُها..
هي الخَفِيُّ الأكثر وضوحًا؛ الغائب الذي يرسم الشخصية ويطبع على السلوك.
أحسب هؤلاء، الذين في قلوبهم مرض، أنّهم سيتوارون عن أنظار الله والعالمين؟ أيظنُّونَ أنَّهم سينالون مرادهم محققين غاياتهم الدنيئة دون أنْ يُخرِجَ الله أحقادهم كلّها، يومًا، على الملأ؟
أيحسبون أنَّهم سيفرّون من العقوبة في الآخرة؟ ومن قبلها؛ من الفضيحة بين الخلائق في الدنيا؟
يوجّه الله تعالى الحديث لرسوله: "ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم؛ ولتعرفنَّهم في لحن القول؛ والله يعلم أعمالكم"
قال له أنّه قادر على أن يجعل الرسول يتعرَّف أولئك المرضى بمجرد النظر إليهم؛ أن يجعل أشكالهم دلالة كافية لمعرفتهم. لكنّه رغم ذلك لن يفعل!
بل.. "ولتعرفنَّهم في لحن القول"
عليك أن تحرص، تتعلَّم وتجتهد لتعرفهم بنفسك، عليك أن تستمع جيِّدًا إلى من يحدثك لأنَّك ستعرفهم من تناقض حديثهم، من نبرة أصواتهم، من نظراتِهم الزائغة، من كلّ ذلك أو بعضه... ستعرفهم بنفسِك فلا تتّكل. حلل ما تسمع وستعرفهم حتمًا.

* كَتَبَ ابن القيم كثيرًا في أمراض القلوب؛ وكذلك عبد الرحمن الجوزي؛ ويمكن البحث عن ذلك.

 (3)
"ولنبلونَّكُمْ حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوَ أخباركم"
عادةً يكون الاختبار/المقارنة بين شيئين أحدهما حسن والآخر سيء؛ مثلا هنا مفاضلة بين المجاهدين وأصحاب الأعذار: "لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا"؛
وهنا أيضًا مفاضلة أخرى:
"أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"
وهنا ثالثة:
"أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"

إذن؛ عودة للآية الأولى؛ أيكون المجاهدون هنا؛ ومن سياق الآيات السابقة لها، الذين حاربوا أمراض قلوبهم؟ الذين حاولوا معرفتها ليعرفوا إن كانوا مصابين بها؟ الذين إذا اكتشفوا أنَّ بقلوبهم مرضًا هبُّوا لعلاجه قبل أن يفوت الوقت؟
أيكون الصابرون هنا هم الذين لم يحاولوا فصبروا على ما جُبِلوا عليه "في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضًا"، الذين قالوا هكذا خلقنا الله ولم يحاولوا أن يصبحوا ذوي قلوب سليمة؟
"ونبلوَ أخباركم"
كمن يقول: وكلّه مكتوب.. تطوّر جهادكم أو صبركم، معروفٌ من هو المجتهد ومن هو الصابر، ومن هو المتكاسل عن كليهما، من المريض القلب، ومن الصحيح.. كلّ شيء. كلّ شيء.

(4)
"إنَّما الحياة الدنيا لعبٌ ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم؛ إن يسألكموها فيُحْفِكُم تبخلوا ويُخرِج أضغانكم"
مرةً أخرى؛ يقلّل من أهميَّة الحياة؛ ويصفها باللعب واللهو؛ الله يا سادة – بخلافنا – لا يأخذ الدنيا على محمل الجد، يقول لنا أنَّه يكفي الإيمان والتقوى، ولن يسألنا أموالنا، لأنَّه لو سألنا إياها "يخرج أضغانكم".. يا إلهي كم تعرف ما صنعت يداك!
إلا المال؛ اسأل أحد المسؤولين عن بيت مالا وانظر ما يقول لك! ستُخرِج أضغانه فعلا!
أيكون الإنفاق الواجب (الزكاة) هنا ضمن "تؤمنوا وتتقوا".. أيّ: أدّوا زكاتكم لضِعافِكُم فلا يسألكم أموالكم.. ابدؤوه بأداء واجباتكم فتعودون أحرارًا؛ في أوقاتكم، في أموالكم، فيما تملكون؟

ربّما.