حسنًا، سُئِلْتُ عن الأبيات التي ألحقتها في الجزء السابق، الموقع – مصدر الأبيات- عرفتُه بالمصادفة في نفس اليوم، وكنتُ أكتب المقال أثناء استماعي للقصائد، فإذا بهذه الأبيات تعْلَقُ في ذهني، والتي ذكّرتْني بحالتِي وقت قراءة الكتاب، معانيهما تليق – بشكل ما – بسياق الكلام في المقال ذاته، في البدء كنتُ أتحدث عـن وحدةِ البَشَر من المُخَلّص الذي سينشلهم من عذاب أليم إلى وعدٍ بجنّات النعيم مع معجزات حيّة تُثلِج صدورهم، والأبيات تدور حول الموضوع بشكل أو بآخر. ونفس الأمر في المرّة الثانية، فالإيمان لا يأتي إلا بعد شكّ وحيرة وبحث، ولنا في قصّة إبراهيم عليه السلام مثال.
إلى من لا يحبّون الشِّعْرَ، يمكنُكم تمرير\ تجاهل الأبيات المقبلة – إنْ وُجِدَت-.
أريد قبل أن أشرع في بدء هذا الجزء أن أوضّح ثلاثة أشياء أسياسية لابدّ من فهمها، الكينونة والسيرورة والصيرورة. عندما نلحق بها أمّة ما، فنقول كينونة الأمة أي كيانها ووجودها، سيرورتها أيّ تاريخها، وصيرورتها أيّ تطوّرها.
" لقد انطلق الطرح التراثي من مبدأ " الحفاظ على التراث" و"الحفاظ على الهوية" فأهمل العلوم الإنسانية ولم يعبأ بالفلسفة وعلومها التطبيقية، ورفع شعار من تمنطق فقد تزندق، واستحكم العداء وتأصل بين الفلسفة والطروحات الإسلامية، حتى صار التفلسف إسفافاً، رغم أن الفلسفة الإسلامية لم تزدهر إلا في العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية.
ونحن نرى بوضوح فقدان البعد الثقافي الإنساني المعاصر في هذه الطروحات، يتجلى، كمثال، عِداءً بين الفقه الإسلامي والقانون المدني، مما جعل علوم النفس والإحصاء والاجتماع والاقتصاد لا تعني شيئاً عند أصحاب الطرح الإسلامي، الذين انعدم عندهم البعد الثالث، ويحاولون مع ذلك لاهثين الحفاظ على كينونة وسيرورة بلا صيرورة، بعد أن أوقفوا التاريخ وصيرورته عند لحظة معينة هي القرون الثلاثة الأولى، التي جعلوها أساساً يقيسون عليه كل ما بعدها. فغدت الثقافة العربية الإسلامية هشة ضعيفة يستحيل صمودها أمام ثقافات الأبعاد الثلاثة.
كما نرى بوضوح أيضاً كيف يتخبطون محاولين الحفاظ على هذه الثقافة:
أ ـ بالتركيز وبشدة على الشعائر (إقامة الصلاة / الصيام / الحج)، علماً أن هذه الشعائر ثابتة لا تدخل في الثقافة وإنمَّا تحدد هوية الانتماء إلى الرسالة المحمدية، وأن ما يدخل في الثقافة هو التشريع وحقوق الإنسان.
ب ـ بإضافة أمور على الشعائر بدعوى أنها ثابتة كالحجاب الشرعي، علماً أن الحجاب أعراف وتقاليد لا علاقة له لا بالإسلام ولا بالإيمان، ومع ذلك فقد جعلوا منه شعاراً سياسياً.
ج ـ بتغييب الحرية الإنسانية وحقوق الإنسان في طروحاتهم، وبتجاهل وتغييب النظريات الاقتصادية بكل فروعها وتفريعاتها.
د ـ بطرح شعار حاكمية الله، الذي ألغى بدوره كل مفهوم للخيار الإنساني.
هذا كله نفى الغائية بشكل كامل، وألغى بعد الصيرورة التاريخية بنفيه التاريخ، سواء في ذلك الحركات الإسلامية السياسية والمؤسسات الدينية. فالفرق الوحيد بين هذه وتلك هو شعار حاكمية الله، فالمؤسسات الدينية تخضع للسلطة السياسية تحت شعار طاعة أولي الأمر، والحركات السياسية تريد السلطة تحت شعار حاكمية الله.
وإذا سألتهم عن الغاية من هذا كله، والغائية عندهم منفية أصلاً، فالجواب هو: الآخرة. وكأن الغائية الدنيوية لا محل لها في طروحاتهم. لكن أطرف ما في الموضوع هو موقفهم من الصيرورة الغربية في العلوم التكنولوجية، التي قبلوها على مضض، بعد أن أمضوا قرناً كاملاً يناقشون خلاله مشكلة كبيرة عندهم هي: هل هذه التقنيات (كالبنطلون والراديو و التلفون والتلفزيون) حلال أم حرام.
إن الدنيا مزرعة الآخرة، وكما أننا نؤمن بالثواب والعقاب ويوم الحساب في الآخرة، ونؤمن بأنه لا دنيا بلا آخرة، كذلك نؤمن بأنه لا آخرة بلا دنيا. وكما نقول بأن الآخرة هي غاية الصيرورة الكونية، كذلك نقول بأن الغاية الدنيوية في الحياة الدنيا هي أساس الآخرة. لكن ما هي هذه الغاية الدنيوية؟
الغاية الدنيوية هي عبادة الله، التي يحكمها قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، الذاريات 56(8). وحرية الناس في عباديتهم لله يطيعونه بملء إرادتهم، ويعصونه بملء إرادتهم، وهي أخيراً التحرر من القسر والجبر والإكراه.
ولاشك بأن مستويات الطاعة والمعصية متفاوتة بين العباد بحسب تفاوت هامش الحرية عندهم، مما يخلق تنوعاً نلحظه بوضوح، كما لاشك بأن للتكنولوجيا وتقدمها أثراً واضحاً في توسيع هامش الحرية والاختيار الإنساني، كالتقدم في حقل المواصلات الذي زاد في حرية الانتقال عند العباد، فزاد بالتالي هذا التنوع بينهم، تأكيداً لقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} هود 118. ولقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} الأنعام 165. ولقوله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ…} النمل 71. وصدق الله العظيم."
إذن.
"حياة الإنسان وحريته ورفاهيته غاية دنيوية، والجنّة غاية أخروية، والخير والشرّ مرتبطان بشكل لا انفصام فيه، لا ينفي أحدهما الآخر بل يتصارع معه، وهذا مربوط بظاهرة الموت. أي أنَّ وجود جدل الإنسان ووجود الكون مرتبط بوجود ظاهرة اسمها الموت، واقرأ معي قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الانبياء 35). ونفهم أن الغائية التي يرسمها التنـزيل الحكيم للوجود الكوني المادي هي الساعة والصور والبعث، وأن الغائية الدنيوية للإنسان هي الحياة والحرية، وأنّ الغائية الأخروية له هي الجنة."
الحديث يشرح نفسه، لذا سأنتقل إلى إشكاليّة أخرى، الجميع يردّد أنّ الإسلام هو الدين الذي لا يرضى الله بسواه، ويستدلّ بقوله تعالى(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينا فلن يُقبَل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) [آل عمران:85] ماذا عن ملايين غير المسلمين في الأرض؟ ما هو الإسلام حقًا؟ كلّ ما قالوه لنا أنّ الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشّرك. هناك الكثير ممّن يحققون هذه الصفات من غير المسلمين! الكثير من المخلصين الصادقين الذين يعلمون تمامًا بوجود الربّ ويدينون له بحيواتهم.
يقول الدكتور محمد شحرور: [كلّ من آمن بالله واليوم الآخر دخل الإسلام، فالإسلام يقوم على العلاقة بالله، أمّا غير ذلك فهم المجرمين، هم الذين قطعوا صلتهم بالله واليوم الآخر(هذه جهنّم التي يُكَذّب بها المجرمون)] لقاء تلفزيوني - قناة أوربت.
الدّين. كما ذُكِر سابقًا، ثلاثة جوانب.
أوّلًا: القيم والأخلاق.
وهي التي بدونها لا ترقى الأمم لسياق الإنسانيّة، لأنّها بذلك تتصرف وفق ما تمليه عليها غرائزها فقط، لا تستعمل عقلها، ولا تتعامل بحضارة كما ينبغي لأيّ أمّة تحمل قيمًا وأخلاقًا.
أيّ دولة، أيّ دين سابق، كان يحوي قيمًا وأخلاقًا. سُمّيَتْ، عند موسى مثلا بالوصايا العشر، تراكمتْ حتى اكتملتْ في الرسّالة المحمديّة، ماهي تلك الأخلاق الأساسية، والتي يجب على كلّ فرد أنْ يعملَ بها، سواء كان يؤمن بالله أو يكفر به، والتي يجب أن تُطبّق في كلّ الدول، أيًا كان تشريعها. هي قيم إنسانية لا يختلف عليها اثنان من أهل الأرض-فيما عدا القيمة الأولى، والتي لا تسري إلا على أتباع الرسالات- كما سيأتي:
"1 - الشرك بالله: يقول تعالى:
ـ { أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا }. الأنعام 151
ـ { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا }. النساء 116.
ـ { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا }. النور 55.
2- بر الوالدين
3- قتل الأولاد
4- الفواحش
5- قتل النفس بغير الحق
6-البر باليتيم وعدم أخذ ماله
7- الوفاء بالكيل والميزان
8- العدل في القول والفعل ولو على الأقارب
9- الوفاء بعهد الله خصوصاً وبالعهود والمواثيق عموماً
10- نكاح المحارم
11- الربــا
12- أكل الميتة والدم ولحم الخنـزير"
ثانيًا:الشّعائر.
وهي التي تميّز أمّة عن أمّة، فالصلاة والصيام والحج الذي يفعله المسلمون اليوم يميّزهم عن غيرهم بأنّهم مسلمون من أتباع محمّد عليه السلام، ويميّز الشعائر ألّا إكراه فيها، ولا إجبار على فعلها، لأنّ النفاق يأتي من ذلك. فمن يُجبَر على الشعائر يصبح يفعلها لأجل أن يُرى فاعلًا لها لا متعبّدًا لله من خلالها. ولم يثبت قط عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنّه أكره أحدًا على إقامة شعيرة من الشعائر. حتى الحديث الوحيد الذي ذُكر بهذا الشأن كان بغرض الترغيب والترهيب لا الإكراه والقسر.
ثالثًا:التشريع.
"كل تشريع، حتى لو كان دينياً، يحتاج الى بينات علمية وإحصائية واجتماعية واقتصادية وسياسية بحسب حقل التشريع وموضوعه. ذلك لأن التشريع قيد يحد من حريات الناس، والحرية أقدس ما في الوجود. وكلما قل تدخل الدولة والتشريع في حياة الناس كان المجتمع أكثر صحة وعافية، وكلما زاد هذا التدخل، وتعددت مواد التشريعات وبنودها، تحد من حريات الناس وتضيق أفق اختيارهم، كان المجتمع مريضاً مقيداً."
"لقد تركتنا ثقافتنا المسطحة هذه ممزقين بين مستوي خطابي دعائي يصيح بنا أصحابه على المنابر وشاشات والتلفزيون: باب الاجتهاد مفتوح.. إن أخطأ المجتهد فله أجر وإن أصاب فله أجران" وبين مستوى موضوعي واقعي نجد أنفسنا معه عرضة للتكفير واللعن والاتهامات، لو خطر لنا أن نجتهد، ونقول ما لم يقله السلف، أو أن ننفرد بقول دون موافقة فقهاء السلطة، أو أن نتعرض بالنقد لأصول الفقه و أصول التفسير. والحقيقة أننا في أمسّ الحاجة لفتح ملفات الأصول والبدء بإعادة التأصيل، بدلاً من أن نظل ممزقين بين صائح في عيد العمال ومهرجاناته: أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه، وبين واقع مؤسف مؤلم، لا يأخذ فيه الأجير أجره إلا بعد أن يجف عرقه وجلده وحلقه.
بين منادٍ في عيد الأم: الجنة تحت أقدام الأمهات، وبين واقع يزعم فقهاؤه ومحدثوه أن معظم أهل النار من النساء. وكأن الأمهات لسن من النساء، أو كأننا ندعو الابن إلى البر بوالدته، فإذا فعل ذلك ذهب هو إلى الجنة، وذهبت هي الى النار. أما في مهرجانات أسبوع العلم فنحن ممزقون أيضاً بين خطيب يتشدق بأن الإسلام دين العلم والعقل، وأنه يحض على التفكير، وانه يأمر بالتدبر والتبصر، وبين ممارسات واقعية تمنع الناس من التفكير والتدبر خوفاً عليهم من الضلال، وترسم للناس دوراً لا يخرجون عنه، هو الاستغفار، فإذا اعترضتهم مشكلة أو سؤال فما عليهم إلا الرجوع إلى العلماء ورثة الأنبياء المختصون المتخصصون للحصول على الحلول والأجوبة، لأنهم مفوضون بالتفكير عن الناس.
هذا التسطح في ثقافة ذات بعدين، نجده عند معظم الاتجاهات العربية، نجده حتى عند رافعي الشعارات في المهرجانات والأسواق الخطابية، الذين ينادون بالوحدة العربية، بينما الإنسان العربي يجد من الصعوبات في الانتقال بين أقطار وطنه الكبير أضعاف ما يجده الياباني والأميركي. وينادون بالحرية والعدالة بينما ما زال القسم الأكبر من الوطن العربي يعيش في ظل الأحكام العرفية، وينادون بالمساواة، بينما ما زالت الامتيازات الأسرية والعشائرية والمذهبية تعشش في مجتمعاتنا بأحسن صحة وعافية.
تعال معي في جولة بين شعارات حرية الكلمة وحرية الصحافة، وبين واقع هذه الحريات وسيشتعل رأسك شيباً. ابحث معي عن مصداقية الشعارات في المهرجانات والمواسم وستحتاج إلى مجهر إلكتروني. والسبب هو أن كل ثقافة مسطحة ذات بعدين فقدت بعد الصيرورة تحاول أن تصنع بعدها الثالث خطابياً وكلامياً، وأن تصوغه في شعارات تطرحها بالمناسبات.
أين بعد الصيرورة عند كل الحركات السياسية في الوطن العربي والعالم الإسلامي، وهل أرست منطلقاتها النظرية الفكرية في تأسيس الدولة المدنية وضمان الحريات الفردية والعامة ضمن صيرورة جديدة، إن كان كذلك فأين برامجها التي تتناسب مع الواقع المعاش، وتجد مصداقيتها على أرض الواقع المعاش لا في خيالات الخطباء والشعراء؟."
* اللقاء.
* الكتاب.
إلى من لا يحبّون الشِّعْرَ، يمكنُكم تمرير\ تجاهل الأبيات المقبلة – إنْ وُجِدَت-.
أريد قبل أن أشرع في بدء هذا الجزء أن أوضّح ثلاثة أشياء أسياسية لابدّ من فهمها، الكينونة والسيرورة والصيرورة. عندما نلحق بها أمّة ما، فنقول كينونة الأمة أي كيانها ووجودها، سيرورتها أيّ تاريخها، وصيرورتها أيّ تطوّرها.
" لقد انطلق الطرح التراثي من مبدأ " الحفاظ على التراث" و"الحفاظ على الهوية" فأهمل العلوم الإنسانية ولم يعبأ بالفلسفة وعلومها التطبيقية، ورفع شعار من تمنطق فقد تزندق، واستحكم العداء وتأصل بين الفلسفة والطروحات الإسلامية، حتى صار التفلسف إسفافاً، رغم أن الفلسفة الإسلامية لم تزدهر إلا في العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية.
ونحن نرى بوضوح فقدان البعد الثقافي الإنساني المعاصر في هذه الطروحات، يتجلى، كمثال، عِداءً بين الفقه الإسلامي والقانون المدني، مما جعل علوم النفس والإحصاء والاجتماع والاقتصاد لا تعني شيئاً عند أصحاب الطرح الإسلامي، الذين انعدم عندهم البعد الثالث، ويحاولون مع ذلك لاهثين الحفاظ على كينونة وسيرورة بلا صيرورة، بعد أن أوقفوا التاريخ وصيرورته عند لحظة معينة هي القرون الثلاثة الأولى، التي جعلوها أساساً يقيسون عليه كل ما بعدها. فغدت الثقافة العربية الإسلامية هشة ضعيفة يستحيل صمودها أمام ثقافات الأبعاد الثلاثة.
كما نرى بوضوح أيضاً كيف يتخبطون محاولين الحفاظ على هذه الثقافة:
أ ـ بالتركيز وبشدة على الشعائر (إقامة الصلاة / الصيام / الحج)، علماً أن هذه الشعائر ثابتة لا تدخل في الثقافة وإنمَّا تحدد هوية الانتماء إلى الرسالة المحمدية، وأن ما يدخل في الثقافة هو التشريع وحقوق الإنسان.
ب ـ بإضافة أمور على الشعائر بدعوى أنها ثابتة كالحجاب الشرعي، علماً أن الحجاب أعراف وتقاليد لا علاقة له لا بالإسلام ولا بالإيمان، ومع ذلك فقد جعلوا منه شعاراً سياسياً.
ج ـ بتغييب الحرية الإنسانية وحقوق الإنسان في طروحاتهم، وبتجاهل وتغييب النظريات الاقتصادية بكل فروعها وتفريعاتها.
د ـ بطرح شعار حاكمية الله، الذي ألغى بدوره كل مفهوم للخيار الإنساني.
هذا كله نفى الغائية بشكل كامل، وألغى بعد الصيرورة التاريخية بنفيه التاريخ، سواء في ذلك الحركات الإسلامية السياسية والمؤسسات الدينية. فالفرق الوحيد بين هذه وتلك هو شعار حاكمية الله، فالمؤسسات الدينية تخضع للسلطة السياسية تحت شعار طاعة أولي الأمر، والحركات السياسية تريد السلطة تحت شعار حاكمية الله.
وإذا سألتهم عن الغاية من هذا كله، والغائية عندهم منفية أصلاً، فالجواب هو: الآخرة. وكأن الغائية الدنيوية لا محل لها في طروحاتهم. لكن أطرف ما في الموضوع هو موقفهم من الصيرورة الغربية في العلوم التكنولوجية، التي قبلوها على مضض، بعد أن أمضوا قرناً كاملاً يناقشون خلاله مشكلة كبيرة عندهم هي: هل هذه التقنيات (كالبنطلون والراديو و التلفون والتلفزيون) حلال أم حرام.
إن الدنيا مزرعة الآخرة، وكما أننا نؤمن بالثواب والعقاب ويوم الحساب في الآخرة، ونؤمن بأنه لا دنيا بلا آخرة، كذلك نؤمن بأنه لا آخرة بلا دنيا. وكما نقول بأن الآخرة هي غاية الصيرورة الكونية، كذلك نقول بأن الغاية الدنيوية في الحياة الدنيا هي أساس الآخرة. لكن ما هي هذه الغاية الدنيوية؟
الغاية الدنيوية هي عبادة الله، التي يحكمها قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، الذاريات 56(8). وحرية الناس في عباديتهم لله يطيعونه بملء إرادتهم، ويعصونه بملء إرادتهم، وهي أخيراً التحرر من القسر والجبر والإكراه.
ولاشك بأن مستويات الطاعة والمعصية متفاوتة بين العباد بحسب تفاوت هامش الحرية عندهم، مما يخلق تنوعاً نلحظه بوضوح، كما لاشك بأن للتكنولوجيا وتقدمها أثراً واضحاً في توسيع هامش الحرية والاختيار الإنساني، كالتقدم في حقل المواصلات الذي زاد في حرية الانتقال عند العباد، فزاد بالتالي هذا التنوع بينهم، تأكيداً لقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} هود 118. ولقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} الأنعام 165. ولقوله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ…} النمل 71. وصدق الله العظيم."
إذن.
"حياة الإنسان وحريته ورفاهيته غاية دنيوية، والجنّة غاية أخروية، والخير والشرّ مرتبطان بشكل لا انفصام فيه، لا ينفي أحدهما الآخر بل يتصارع معه، وهذا مربوط بظاهرة الموت. أي أنَّ وجود جدل الإنسان ووجود الكون مرتبط بوجود ظاهرة اسمها الموت، واقرأ معي قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الانبياء 35). ونفهم أن الغائية التي يرسمها التنـزيل الحكيم للوجود الكوني المادي هي الساعة والصور والبعث، وأن الغائية الدنيوية للإنسان هي الحياة والحرية، وأنّ الغائية الأخروية له هي الجنة."
الحديث يشرح نفسه، لذا سأنتقل إلى إشكاليّة أخرى، الجميع يردّد أنّ الإسلام هو الدين الذي لا يرضى الله بسواه، ويستدلّ بقوله تعالى(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينا فلن يُقبَل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) [آل عمران:85] ماذا عن ملايين غير المسلمين في الأرض؟ ما هو الإسلام حقًا؟ كلّ ما قالوه لنا أنّ الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشّرك. هناك الكثير ممّن يحققون هذه الصفات من غير المسلمين! الكثير من المخلصين الصادقين الذين يعلمون تمامًا بوجود الربّ ويدينون له بحيواتهم.
يقول الدكتور محمد شحرور: [كلّ من آمن بالله واليوم الآخر دخل الإسلام، فالإسلام يقوم على العلاقة بالله، أمّا غير ذلك فهم المجرمين، هم الذين قطعوا صلتهم بالله واليوم الآخر(هذه جهنّم التي يُكَذّب بها المجرمون)] لقاء تلفزيوني - قناة أوربت.
الدّين. كما ذُكِر سابقًا، ثلاثة جوانب.
أوّلًا: القيم والأخلاق.
وهي التي بدونها لا ترقى الأمم لسياق الإنسانيّة، لأنّها بذلك تتصرف وفق ما تمليه عليها غرائزها فقط، لا تستعمل عقلها، ولا تتعامل بحضارة كما ينبغي لأيّ أمّة تحمل قيمًا وأخلاقًا.
أيّ دولة، أيّ دين سابق، كان يحوي قيمًا وأخلاقًا. سُمّيَتْ، عند موسى مثلا بالوصايا العشر، تراكمتْ حتى اكتملتْ في الرسّالة المحمديّة، ماهي تلك الأخلاق الأساسية، والتي يجب على كلّ فرد أنْ يعملَ بها، سواء كان يؤمن بالله أو يكفر به، والتي يجب أن تُطبّق في كلّ الدول، أيًا كان تشريعها. هي قيم إنسانية لا يختلف عليها اثنان من أهل الأرض-فيما عدا القيمة الأولى، والتي لا تسري إلا على أتباع الرسالات- كما سيأتي:
"1 - الشرك بالله: يقول تعالى:
ـ { أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا }. الأنعام 151
ـ { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا }. النساء 116.
ـ { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا }. النور 55.
2- بر الوالدين
3- قتل الأولاد
4- الفواحش
5- قتل النفس بغير الحق
6-البر باليتيم وعدم أخذ ماله
7- الوفاء بالكيل والميزان
8- العدل في القول والفعل ولو على الأقارب
9- الوفاء بعهد الله خصوصاً وبالعهود والمواثيق عموماً
10- نكاح المحارم
11- الربــا
12- أكل الميتة والدم ولحم الخنـزير"
ثانيًا:الشّعائر.
وهي التي تميّز أمّة عن أمّة، فالصلاة والصيام والحج الذي يفعله المسلمون اليوم يميّزهم عن غيرهم بأنّهم مسلمون من أتباع محمّد عليه السلام، ويميّز الشعائر ألّا إكراه فيها، ولا إجبار على فعلها، لأنّ النفاق يأتي من ذلك. فمن يُجبَر على الشعائر يصبح يفعلها لأجل أن يُرى فاعلًا لها لا متعبّدًا لله من خلالها. ولم يثبت قط عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنّه أكره أحدًا على إقامة شعيرة من الشعائر. حتى الحديث الوحيد الذي ذُكر بهذا الشأن كان بغرض الترغيب والترهيب لا الإكراه والقسر.
ثالثًا:التشريع.
"كل تشريع، حتى لو كان دينياً، يحتاج الى بينات علمية وإحصائية واجتماعية واقتصادية وسياسية بحسب حقل التشريع وموضوعه. ذلك لأن التشريع قيد يحد من حريات الناس، والحرية أقدس ما في الوجود. وكلما قل تدخل الدولة والتشريع في حياة الناس كان المجتمع أكثر صحة وعافية، وكلما زاد هذا التدخل، وتعددت مواد التشريعات وبنودها، تحد من حريات الناس وتضيق أفق اختيارهم، كان المجتمع مريضاً مقيداً."
"لقد تركتنا ثقافتنا المسطحة هذه ممزقين بين مستوي خطابي دعائي يصيح بنا أصحابه على المنابر وشاشات والتلفزيون: باب الاجتهاد مفتوح.. إن أخطأ المجتهد فله أجر وإن أصاب فله أجران" وبين مستوى موضوعي واقعي نجد أنفسنا معه عرضة للتكفير واللعن والاتهامات، لو خطر لنا أن نجتهد، ونقول ما لم يقله السلف، أو أن ننفرد بقول دون موافقة فقهاء السلطة، أو أن نتعرض بالنقد لأصول الفقه و أصول التفسير. والحقيقة أننا في أمسّ الحاجة لفتح ملفات الأصول والبدء بإعادة التأصيل، بدلاً من أن نظل ممزقين بين صائح في عيد العمال ومهرجاناته: أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه، وبين واقع مؤسف مؤلم، لا يأخذ فيه الأجير أجره إلا بعد أن يجف عرقه وجلده وحلقه.
بين منادٍ في عيد الأم: الجنة تحت أقدام الأمهات، وبين واقع يزعم فقهاؤه ومحدثوه أن معظم أهل النار من النساء. وكأن الأمهات لسن من النساء، أو كأننا ندعو الابن إلى البر بوالدته، فإذا فعل ذلك ذهب هو إلى الجنة، وذهبت هي الى النار. أما في مهرجانات أسبوع العلم فنحن ممزقون أيضاً بين خطيب يتشدق بأن الإسلام دين العلم والعقل، وأنه يحض على التفكير، وانه يأمر بالتدبر والتبصر، وبين ممارسات واقعية تمنع الناس من التفكير والتدبر خوفاً عليهم من الضلال، وترسم للناس دوراً لا يخرجون عنه، هو الاستغفار، فإذا اعترضتهم مشكلة أو سؤال فما عليهم إلا الرجوع إلى العلماء ورثة الأنبياء المختصون المتخصصون للحصول على الحلول والأجوبة، لأنهم مفوضون بالتفكير عن الناس.
هذا التسطح في ثقافة ذات بعدين، نجده عند معظم الاتجاهات العربية، نجده حتى عند رافعي الشعارات في المهرجانات والأسواق الخطابية، الذين ينادون بالوحدة العربية، بينما الإنسان العربي يجد من الصعوبات في الانتقال بين أقطار وطنه الكبير أضعاف ما يجده الياباني والأميركي. وينادون بالحرية والعدالة بينما ما زال القسم الأكبر من الوطن العربي يعيش في ظل الأحكام العرفية، وينادون بالمساواة، بينما ما زالت الامتيازات الأسرية والعشائرية والمذهبية تعشش في مجتمعاتنا بأحسن صحة وعافية.
تعال معي في جولة بين شعارات حرية الكلمة وحرية الصحافة، وبين واقع هذه الحريات وسيشتعل رأسك شيباً. ابحث معي عن مصداقية الشعارات في المهرجانات والمواسم وستحتاج إلى مجهر إلكتروني. والسبب هو أن كل ثقافة مسطحة ذات بعدين فقدت بعد الصيرورة تحاول أن تصنع بعدها الثالث خطابياً وكلامياً، وأن تصوغه في شعارات تطرحها بالمناسبات.
أين بعد الصيرورة عند كل الحركات السياسية في الوطن العربي والعالم الإسلامي، وهل أرست منطلقاتها النظرية الفكرية في تأسيس الدولة المدنية وضمان الحريات الفردية والعامة ضمن صيرورة جديدة، إن كان كذلك فأين برامجها التي تتناسب مع الواقع المعاش، وتجد مصداقيتها على أرض الواقع المعاش لا في خيالات الخطباء والشعراء؟."
* اللقاء.
* الكتاب.
No comments:
Post a Comment