بدأ هاتفه المحمول في الرنين باللحن الذي يحبّ سماعه كثيرًا.. شايف البحر شو كبير.. أجاب بلهفة:
- حبيبتي؛ اشتقتُكِ.
- هممم.. "دي بيتردّ عليها إزاي ياربّي"، تضحك ضحكتها الصافية التي تلامس قلبه، تقول: متى ستنتهي؟
- ساعتين على الأكثر. سأهاتفكِ.
- إذن. لا تأتِ إلى المنزل. أنت مدعو على الغداء في مكاننا المفضّل. سأنتظرك هناك. لا تتأخـر.
- بأمْرِك.
- شكرًا عزيزي الأعـزّ. إلى اللقاء.
أعاد الهاتف إلى جيبه، وعاد بذاكرته للخلف، كانت حياته هادئة حتى شارف على الأربعين، مستقرّة خالية من الانحرافات النفسية والمزاجية، تزوج وأنجب وعاش لأسرته وبيته، يجد سعادته في نظرات أطفاله وفي قلب زوجته وقناعته من الحياة بأشيائها الدنيا دون أن يشغل باله بطموحات لا تسعها إمكاناته فيشقى كما يشقى الكثير من الناس. فكثير شقاء الناس أنّ طموحاتهم تتجاوز إمكاناتهم بكثير. فلا هم هانئون، ولا يستطيعون لغيره سبيلا. مضت حياته على هذه الوتيرة الهادئة حتى كان بإمكانه أن يضع جدولا لأعماله لعام قادم دون تغيير ودون مفاجآت. حتى قابلها فى العمل.. " فدوى " .. فتاة تقترب من الثلاثين، لفتت انتباهه بشدة وكأنها حجرًاً ثقيلا أُلقِيَ في مائه الراكد فأحدثت موجات عنيفة في قلبه وعقله. كانت نموذجًا مختلفًا عن كلّ من قابلهن فى حياته من قبل. ألغتْ كثيرًا من أحكامه ومبادئه التي اعتنقها بقدسية لسنوات طوال.
كان يعتقد أنّ الرجل هو صاحب الكلمة السديدة والرأي الأكيد فلما حادثها رفضت آراءَه في كثير من الأشياء ولدهشته لم ينتفض غضبًا كما تعوّد عند مس معتقداته بل وجد نفسه معجبًا بها أشد الإعجاب، وكان يتبنّى رأيها في كثير من الأحيان. كان يرى جمال المرأة في خجلها، رقة صوتها وانخفاضه وفي انكسار نظرتها عندما تخاطب الرجال، لكنّه كَـفَـرَ بهذه المعتقدات في كلّ مرة تدخل مكتبه بخطى واثقة ونظرات ثاقبة وصوت ملئ بالرقة والحزم في آن، وشيئًاً فشيئًاً تشرّبتها مسامه وبدأت تغزو قلبه رويدًاً رويدًاً بخطى بطيئة، واثقة. لم يعد يرى الأشياء كما كانت، كلّها تغيّر. كانت من تلك النساء اللواتي يجدن التعامل مع الرّجال. في ملبسها ومنطقها ونظراتها. كانت تعلم متى تتكلم ومتى تصمت. متى تقترب ومتى تبتعد. متى تضحك ومتى تتغاضب. متى تبدى اهتمامًا ومتى تُعْرِضْ. وقد أدركت إعجابه بها منذ النظرة الأولى فكانت تعامله بحرص وشكل مختلف عن باقى الزملاء. حتى أنّها أعطته رقم هاتفها بطريقة ذكية أثارت إعجابه وأكدّت إحساسه بأنها تهتمّ.. طالما قرأ أنّه إذا كانت لدى المرأة خمسون حاسة، فإنّ أربعين منها للإحساس بإعجاب الرجل. لم يفهم ذلك أبدًا قبل أن يعرف فدوى.
أحسّت بأنه قد ملأ فراغًا كبيرًا داخلها. فأعطت له مساحة أكبر ليملأها. وكلما امتلأ أفردت له مساحة أكبر، ولم يكن هو صاحب تجارب كثيرة مع هذا الصنف من النساء. فتخيّل معاملتها إعجابًا ونظراتها حبًا. فهوى من قمة جبل الحكمة إلى سفحه. وتعلّق بها تعلقًا ملك عليه نفسه. فكانت صورتها لا تفارق خياله أبدًا. وفجأة برزت عيوب حياته كلها أمامه وكأن تلك الحياة جديدة عليه لم يعش فيها ولم يصنعها بنفسه طيلة أربعين عامًا. بدت فجأة حياة خاوية من التجديد وخالية من المشاعر وبدت زوجته المحبة زوجة تقليدية فى كل شئ. في شكلها وفي ملبسها وفي تعاملها معه. وبدأ التمرد على حياته الهادئة الأليفة يزحف إليه ببطء فى البداية ثم كطوفان اجتاح نفسه مرة واحدة. وبدأ يختبر مشاعر جديدة عليه لم يكن مر بمثلها من قبل كالغيرة عليها إذا ما خاطبت أحدًا من الزملاء وإذا ما أبدى أحد منهم إعجابًا أو اهتمامًا أو حتى دخل معها فى مناقشة تخص العمل. وبطبيعة الحال لم يخف حاله هذا على أحد. وخاصة على زوجته التي احتارت كثيرا فى أمره وفكرت فى كل الاحتمالات إلا فى وجود أخرى فى حياته. أو بالأحرى طردت هذا الخاطر كلما ألحّ عليها فلم تكن لزوجها الطيب سوابق فى هذا الاتجاه. حاولت مناقشته علّها تعرف ما به وحاولت كثيرًا الاهتمام بنفسها ولكنه لم يلتفت لهذا التغيير وكأنه لم يعد يراها. كانت صورة فدوى أمام ناظريه أينما ذهب، فدوى التي أصبحت زوجته الآن، والتي يعيش معها بسعادة تامّة مثبتًا للجميع أنّها ليست نزوة وستنتهي.
تذكّر كم تألمتْ زوجتُه عندما أخبرها أنه عاشق. وأنّه مصمم على قراره بالزواج منها. وأنّه لم ولن يقصّر أبدًا في حقها وأولادهما. وأفضل له أن يتزوجها وتصبح واقعًا يتعامل معه على أن تظل طيفًا يطارده أينما حل ورحل. قالت له بعد طول نقاش: طلّقني. حاول أن يقنعها بشتّى الطرق، لكنّها رفضت سماعَه وتركتِ المنزل. لبّى لها رغبتها كارهًا. وتزوّج فدوى.
بعد أشهر قلائل، أخبرته ابنته سرًا أنّ أمّها تفتقده كثيرًا، وأنّها رفضت أحد الذين تقدّموا للارتباط بها، وأنّها ما زالت ترتدي خاتم زواجهما.. قالت له برجاء: أبي.. أرجوك تزوّج أمي ! ربما طَلبَتِ الطلاق من قبل لأجل أن تتراجع عن رأيك في الزواج بفدوى، لكنّها الآن تريدك في حياتها. أرجوك.
أخذ يتأمل في ابنته شاكرًا رجاحة عقلها، قطع داخلَه وعدًا بألا يدعها تتزوّج إلا من يرغب في البقاء معها كما كان يرغب في البقاء مع فدوى. لا من يرتبط بها لأجل إتمام حياته الاجتماعيّة. قال لها بينما يطبع قبلة على جبينها: أعدكِ أن نكون أسرة واحدة.
بقلم: هاني زينهم
12 يون 09
تحديث: نهاية أخرى هنا
3 comments:
جميلة وواقعية
ولكنك
او أستاذ هانى
تركنا فى منتصف الطريق
لا نعرف كيف ستنتهى القصة
كيف سيكونون اسرة واحدة
لم نتعود نحن المصريون المعاصرون
على الاسرة الكبيرة والتى فيها اكثر من أم!!
شكراًياايمان لوضعك القصة من جديد
ولا أدرى اين كنت انا حينما نشرها مستر هانى اول مرة؟ام انه لم ينشرها واختص مدونتك بها؟
أم هو (الزهايمرالمبكر)عندى:)
لأ هو نشرها ومسحها على طول عنده..
أسرة واحدة لا تعني أسرة كبيرة دائمًا..
هناك أسر كبيرة لأم واحدة وأب واحد..
ثمّ
دعينا نفعل ما نشاء في القصص !
ولا حيبقى برا وجوا ؟
تحياتي لكِ عزيزتي
لسه جايه من قصة هانى زينهم
و اتفاجأت هنا بالقصه ذاتها و بعض التعديلات الطفيفه
بجد عمل هايل جدا انه يخرج بالشكل ده و احنا لم نتعود العمل الجماعى انه يخرج بالنتيجه الحلوه دى رغم اننا هايلين ف الاعمال الفرديه
نرجع للقصه
كنت قايله عند هانى ان القصه يا اما تنتهى بالسلامه بس يفضل جواه حزن شديد
يا اما تنتهى بزواج سعيد او فشل ذريع ف كل ارجاء حياته
هنا و النهايه سعيده
هو سعيد بحياته الجديده و الحب اللى دب ف حياته
جميل
بجد جميل انك تعيش و تفرح من غير ما ينغص عليك حزن غيرك اللى اتسببت فيه
مره تانيه بكرر اعجابى بالصوره اللى طلع بيها العمل الجماعى
Post a Comment