في يومٍ ما؛ بينما أعود من العمل مع صديقتي في باص من دمنهور للاسكندرية، والمسافة تقريبًا ساعة إلا ربعًا، إذ بي أجد امرأة واقفة بجواري، غمزت لي صديقتي أن أعْرِضَ عليها أن تجلس، فقلتُ لها: لكنّني لا أريد أن أقف، الباص كان متوقفًا وهي ركبت وهي تعلم أنَّه لا مكان فارغ لتجلس به، وقررتْ أنْ تبقى!
قالت لي: أخبريها أنتِ ثم أنا سأقوم لها!
قلتُ لها: حسنًا ما دام الأمر كذلك!
وعرضتُ على المرأة أن تأتي لتجلس، فرفَضَتْ فلم أكرّر العرض. فالتفتُّ فإذا بصديقتي "تشيط" حنقا عليّ، أنْ لماذا لم ألحّ في طلبي؟ فبالتأكيد ستقول لا في المرّة الأولى، لأنّها مُحْرَجَة، وعليّ أن ألحّ مرات عديدة كي أجبرها على الموافقة!
وهنا قررتُ أنْ ألعب مع صديقتي الطيّبَة لعبة.. (كنتُ ضحيتها من قِبَلِ أحد الأصدقاء قَبْلًا).
بدأت أسألها لماذا تريد – حقًا- وبهذا الإصرار أن تقوم للمرأة؟ ولماذا يضيرها سكوتي من أوّل مرة حقًا؟ فقالت أنّ ضميرها يؤنبها لأنّ الناس غالبًا ترفض ظاهرًا لأنها تريد أن تشعر حقًا أنّك تريد أن تفعل هذا الشيء.. أيّ أن إلحاحي في العرض معناه أنني حقًا وصدقًا وقلبًا وقالبًا أريد لها أن تجلس ويدلّ على رضاي التامّ الكامل الشامل بأنْ أبقى واقفة!
فقلتُ لصديقتي أنّها تريد أن تفعل ذلك فقط لإرضاء ضميرها لا لكي تجلس المرأة! وأنّها في عُمقِ نفسها تريد أنْ تشعر بالرّضا عن نفسِها لذلك قامت بالعرض بالأساس، أيّ أنَّ الأمر كلّه أنانية، وعندما رفضتِ المرأة فإنّ ذلك يؤثّر سلبًا في هذه النقطة لديها فلذلك تشعر بالأسى!
ولا أريد أنْ أقول أنني اتُهِمْتُ بعدها بالجنون والأنانية والتفكير الماديّ البحث والبُعد عن الإنسانية!
يقول يحيى: "حين يقول شخص ما: أحب ذاك الشخص. أو: هذا الشخص صديقي. أو إلى غير ذلك، يمكن وضع ترجمة طويلة لما يعنيه بالتالي: هذا الإنسان يمنحني بعض ما ينقصني، وهو بهذا يغنيني عن هذا النقص، مما يجعلني بحاجة له كي لا أعود إلى النقص، واحتياجي له كي أستفيد منه يقابله بعض المَنْحِ مني له كي يستفيد مني أيضًا، و إلا فلن يبقى، عملية الاستفادة والمَنْحِ تلك نسميها باسم شعور ما." !
يُفسّر المسيري ذلك بأنّ العلاقات تنقسم إلى تعاقدية وتراحمية، التعاقدية ليست شرطًا أن تحتوي عقودًا كما يوحي اسمها، إنّما هي تلك التي يتفق طرفاها – وأحيانًا دون كلام – بتبادل الخدمات، والتراحمية هي التي تكون باختصار "خالصةً لوجهِ الله"؛ فلا ينتظر الشخص الذي يقوم بعلاقة تراحميّة أنْ ينال مقابلا..
وكان يصف الزواج بأنَّه علاقة تعاقدية مبنيَّة على التراحم. ويقول أنَّ هذا أفضل تفسير توصَّل إليه، بعد حيرته طويلًا في استيعاب ميكانيزم العلاقة الزوجية، وهل هي معتمدة على العاطفة أم على العقل.
كنتُ أتسلّى بتفنيد العلاقات عندما قرأتُ تفسير المسيري لها، والذي أجابَ على حيرةٍ عندي كانت تتعلّق بالإخلاص، كنتُ على شفا إنكارِ شيءٍ اسمه "عمل شيء ما لوجه الله" - ليس اقتناعًا بـرأي "جوي تريبياني"! - خَفف حديثه كثيرًا من كُفْري هذا وإنْ لم يمحه بعد..
لا أذكر من قال: "ليستِ الأنانية أنْ تعيش كما تشاء، بل الأنانية أنْ تريد أنْ يعيش الناسُ كما تشاء." ربّما الرافعي، وهو محقّ تمامًا، تذكرتُ فورَ أن قرأتَها أنَّ أمّي كانت تتهمّني بالأنانيّة لأنني أهتمّ بنفسي وأعيش حياتي كما أحِبّ ولا آبَه كيف سيفكّر فيّ النّاس ولا أهتمّ لأقوالهم وآرائهم فيّ، أدلّل نفسي تمامًا وهذا ما تراه هي أنانية، أنني لا أفني ذاتي في خدمة الآخرين كما تفعل هي! وأنا أرى أنّها تفعل ذلك فقط لتشعر بالرّضا الذاتي! – الإنكار إيّاه – بينما أنا أنال الرِّضا الذاتي من مصادر أخرى. – تمويل مَحلِّي! –
وبين الشَكِّ واليقين؛ يكون الإيمان. أو كما قال الرسول عليه السلام لأصحابه عندما سألوه أنَّ نفوسهم تحدّثهم بما لا يمكن النطق به أبدًا.. "ذلك الإيمان".
الحل كما يقول يحيى: "وبالرغم من أننا خلال عملية تطورنا تلك نشأ بنا مفهوم احتقار التفكير النفعي، إلا أنه لا داع للخجل من كون جميع روابطنا الاجتماعية قائمة على النفع فتلك طبيعتنا، نحن لسنا آلهة، والنقص متأصل بنا إلى حد لا يمكن انتزاعه، هذا النقص الذي في ظلاله نضطر أن نكون سلالة نفعية اجتماعيًا."
4 comments:
الله يرحمه المسيري ..... غير كتير من رؤيتي للحياة رغم اني لم اقابله مطلقا
ما أثار إستعجابي أن صديقتكِ طلبت منكِ أن تفعلي هذا، لم تفعله بذاتها. لكن بخلاف هذا لي تعليقات على بضعة نقاط، أول نقطة هي قولكِ لصديقتكِ أن الأمر كله أنانية، فما كنت لأسميه هكذا، بل الأمر كله إنساني، جميعنا يفعل أو فعل أمور مماثلة، و لا يجعل هذا منا جميعاً أنانيين، بل يجعلنا بشر فقط، و يجب ألا نطلب أكثر من هذا و نفخر به كما هو، لأن هذا هو ما نحن عليه، نحن بشر، محاولة رفض أو التخلص من بشريتنا -بإحتياجها و نقصها- هي كمحاولة أن نصبح آلهة، لكننا لسنا آلهة، كما لا يجب نشعر بالعار من كوننا بشر، هذا هو أصلنا، هذا هو ما نحن عليه، و رفضه هو رفض لذواتنا، كما أننا، رغم كل شيء، كائنات مذهلة.
النقطة الثانية هي العلاقات التراحمية التي يذكرها المسيري، علاقات خالصة لوجه الله، مثل تلك العلاقات أؤمن بإستحالتها، فقد أستطعت تقديم تفسيرات نفسية نفعية لعلاقات تبدو خالصة لوجه الله جداً، و التضحية، الرعاية، التكفل و حتى التصدق، كلها لها أسس نفعية، أما العلاقات الزوجية أو العاطفية بشكل عام، فهي شديدة النفعية و لا يوجد بها أي نوع من التراحم، لكن أتعلمين، حين أنظر لذاتي أشعر بشيء يشبه خليط من الفرحة و الفخر في أنني ناقص بشكل يجعلني في حاجة قوية لشريكتي، ذلك الإحتياج النفعي لها لا يزعجني، بل يثير بي الإقرار بوجوده نوع من الرضا.
آمم أظن هذا هو كل شي، أبتسمت حين قرأت تعبير تمويل محلي بالمناسبة، آمم لحظة، جوي تريبياني ؟ D=
يحيى:
سأبدأ من النهاية؛ جوي تريبياني في مسلسل فريندز. كان له حوارًا مع فيبي بوفيه لإقناعها بأنه لا شيء اسمه:
Good Deeds Does NOT exist
الأمر الثاني؛ العلاقات التراحمية محددة المواقف، لم أفهم من كلام المسيري أن العلاقات التراحمية مطلقة التعريف، فالأمر مرن ويتعلق بالزمان والمكان وطبيعة العلاقة بالتأكيد.
والزواج علاقة تعاقدية مبنية على التراحم، طرفي العلاقة الزوجية يقدمان لبعضهما خدمات لا يمكن استمرار العلاقة بدونها، وهذا طبقًا "للعقد" بينهما، لكنّ وجود التراحم هو ما يجعل هذه العلاقة غنيّة وتمنح السعادة والرضا والإشباع الروحي.
أخيرًا؛ أظن لأنها كانت تجلس بجوار النافذة فأنا الأقرب مكانيًا للمرأة
:D
شكرًا لمرورك :)
وليد:
كل الكتاب يفعلون؛ أو معظمهم.
شكرًا لردك :)
موضوع مٌعذب ! ,, لي تدوينة - على الأقل- لأشاركك ويحي أفكاري فيه :)
Post a Comment