كنت أطالع قناة الفجر الفضائية مصادفة، وعرفتُ أنّها قد خصصت ساعتين من بثّها اليومي لبثّ برامجها باللغة الانجليزية من باب الردّ على الهجوم الذي حدث مؤخرًا، ووجدتُ أنّ الرّجل (ولن أقول الشيخ) بدأ في الحديث للمتحدثين بالانجليزية عن الدَيْن (القرض) ومأكودية كتابته وضرورة توفر الشهود، وهنا نظرت باهتمام لأسمع الحجّة التي سيقولها تبريرًا لجُرْم "رجل واحد وامرأتان"، وأرى كيف سيحسّن صورة الإسلام ويريهم الحجّة النيّرة التي تخرس أيّ واحد يفتح ملفّ المرأة مرة أخرى، فإذا به يستشهد بصورة من قناة السي إن إن بعنوان:"المرأة الحامل تفقد ذاكرتها" ويؤكد على كلام أصحاب الدراسة بأنّها:"هذه دراسة علمية مؤكدة!"، وبطريقة مثيرة للشفقة يناضل للتأكيد على أنّ هذه الدراسة العلمية التي تمت في القرن العشرين هي سبب نزول الآية قبل ما يقرب من ألف عام ونصف!!
أنتَ لم تملك أدلتك الخاصّة لتعرضها، تتحدث عن دينك الخاصّ الذي تريد الدفاع عنه بأدلّة لم يجلبها علماؤك ولا فسّرها عقلاء أهل بلدك!
التساؤل المباشر الذي سيسأله أي سامع لهذا الهراء: "ماذا بشأن غير الحامل؟ ومن لا يمكنها الإنجاب؟ ومن حملت مرة واحدة تتساوى بمن تنجب كثيرًا؟ ... إلخ"!
يقول الأفغاني"أفضل وسيلة لإقناع الغربيين بالإسلام، أن نقنعهم أولا بأننا لسنا مسلمين كما ينبغي"
من الأسئلة التي ألحّت عليّ كثيرًا، لماذا امرأتان ورجل للشهادة؟ لا أؤمن أبدًا بالإجابات الجاهزة، ولا أقول أنني توصلتُ للإجابة تمامًا، لكنني أحاول فكّ رموزها بطريقة أخرى، عقلانية، لا تجعلني أرثي لأحد الطرفين أو آتي على أحدهما.
الشاهد من الآيات:"واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أنْ تضلّ إحداهما فتذكّر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا .. وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" آية الدَيْن، البقرة:282
دعوني أسأل أولا: من قال أن الحُكْم السابق يعمّم على كل أنواع الشهادة؟ ولماذا لم يتحدد الأمر في الديون/البيوع فقط كما ذُكِرَ في الآيات؟ ماذا عن حوادث السرقة والقتل والاغتصاب وبقية الجرائم التي تحتاج لشهادة؟ تساؤلاتي بناء على المقال الذي سأسرده لاحقًا هنا لابن القيّم الجوزية يفرّق بين "الشهادة" و"الرواية"، ويبيّن أنّ الكثير من المواقف مختلف فيها بشأن "العدد" أصلا.. إذن المسألة ليست (رجلان)/(رجل وامرأتان)، بل أصلا هل هناك تعدّد أم يُكْتَفى بشهادة واحد. وهو ما يجعلني أقتنع أكثر أنَّ مشكلتنا ليست أبدًا في الأحكام الفرعية التي نختلف بشأنها، بل في القرارات الكبيرة التي نتأخر كثيرًا عن اتخاذها أو نجبن عنها.
معاني الضلال:
في لسان العرب: "الضَّلالُ والضَّلالةُ: ضدُّ الهُدَى والرَّشاد؛ قال أَبو منصور: والإِضْلالُ في كلام العرب ضِدُّ الهداية والإِرْشاد. وقال: والأَصل في كلام العرب وجه آخر يقال: أَضْلَلْت الشيءَ إِذا غَيَّبْتَه. قال ابن بري: قال أَبو عمرو بن العلاء إِذا لم تعرف المكانَ قلت ضَلَلْتُه، وإِذا سَقَط من يَدِك شيءٌ قلت أَضْلَلْته؛ قال: يعني أَن المكان لا يَضِلُّ وإِنما أَنت تَضِلُّ عنه، وإِذا سَقَطَت الدراهمُ عنك فقد ضَلَّت عنك. تقول للشيء الزائل عن موضعه: قد أَضْلَلْته، وللشيء الثابت في موضعه إِلا أَنك لم تَهْتَدِ إِليه: ضَلَلْته. وضَلَّ الناسي إِذا غاب عنه حفظُ الشيء. وأَضَلَّه أَي أَضاعه وأَهلكه. وفي التنزيل العزيز: إِنَّ المجرمين في ضَلالٍ وسُعُرٍ؛ أَي في هلاك. والضَّلال النِّسْيان. وتَضْلِيل الرجل: أَن تَنْسُبَه إِلى الضَّلال. وضَلَّ فلان عن القَصْد إِذا جار."
في القاموس المحيط: "وضَلَّ يَضِل، وتفتحُ الضادُ، ضَلالاً: ضاعَ، وماتَ، وصارَ تُراباً وعِظاماً، وخَفِيَ وغابَ. ويقال: هو ضُلُّ بنُ ضُلٍّ، بكسرِهما وضَمِّهِما: مُنْهَمِكٌ في الضَّلالِ، أو لا يُعْرَفُ أبوه، أو لا خَيْرَ فيه. وأضَلَّهُ: دَفَنَهُ وغَيَّبَهُ. ويقالُ للباطِلِ: ضُلَّ بتَضْلاَلٍ."
كُـلِّ هذه المعاني للضلال، لم يؤخذ منها سوى معنى واحد، يتحامل على المرأة بشكل أو آخر، فالذاكرة أمر متفاوت بشأنه بين الرجال والنساء، يختلف في النساء كما يختلف في الرّجال، ولا عجب أن يؤخذ التفسير الأقرب لعقلية مجتمع يفكّر في المرأة كمواطن من الدرجة الثانية بداهة.
ماذا لو أننا فهمنا خطأ كلّ هذا الوقت؟ وكان الضلال المعني في الآية هو تراجع إحداهما عن الشهادة نظرًا لخوفها من مواجهة المدّعَى عليه؟ أليست بهذا "تَضِلّ" عن الحق وتتراجع عن أداء حقّ النّاس في ظهور الحقيقة وتبيان الحقّ؟
ماذا لو أنّها جَبُنَت، وخشيت على نفسها وأبنائها من سطوة المدعى عليه (المشهود عليه) و"ضلّت"، هنا سيأتي دور شريكتها في المأساة، لتذكرها بحجم الكارثة التي فعلها الجاني، لتشدّ أزرها للحصول على الحقّ إن كان لهما، أو ردّه لمستحقيه إن كان لغيرهما. سـ"تذكّر" إحداهما الأخرى بفداحة سكوتها ومدى الظلم الذي يمكن أن يحدث إنْ ظلّت هي على "ضلالها".
في برنامج حماية الشهود بأمريكا، يظلّ الشهود تحت حماية الشرطة طيلة مدة الشهادة، وحتى تنتهي المحاكمة تمامًا، وفي حالات معيّنة، إن كان في شهادة الشهود خطرًا على حياتهم من الجناة أو أطرافهم، يتمّ تغيير أسماءهم وأماكن إقامتهم، وقد يظلّون تحت حماية الشرطة للأبد بهويّاتهم الجديدة.
هل يمكن لأي امرأة أن تتحمّل ضغطًا نفسيًا كهذا؟ إذا كانت معظم النساء (فيما رأيتُ) ترفض الاقتران برجل لا يملك وظيفة (ثابتة) فسترضى بالشهادة في محاكمة قد تصبح بعدها مهددة وأسرتها للأبد؟
هنا سيسأل سائل، ماذا عن الرجال؟ ألا يخشون أيضًا على حيواتهم ويتخوفون بشأن تهديد عوائلهم وهوياتهم؟ سأقول أنَّ معظم الرجال لا يتنازلون عن حقوقهم، ولا يتسامحون كالنّساء بهذا الشأن، خصوصًا لو كانت الحقوق ماديّة، وليسوا بحاجة لأن يذكّرهم أحد بأنّ حقوقهم ضائعة وعليهم أن ينالوها.
وأختم بما قاله محمد عبده "كل ما يُعاب على المسلمين ليس من الإسلام، وإنما هو شيء آخر سـمّـوه إسلامًا"..
يقول ابن القيّم في كتابه بدائع الفوائد:[الفرق بين الشهادة والرواية أنَّ الرواية يعم حكمها الراوي وغيره على ممر الأزمان، والشهادة تخص المشهود عليه وله ولا يتعداهما إلا بطريق التبعية المحضة. فإلزام المعين يتوقع منه العداوة وحق المنفعة والتهمة الموجبة للرد، فاحتيط لها بالعدد والذكورية وردت بالقرابة والعداوة وتطرق التهم، ولم يفعل مثل هذا في الرواية التي يعم حكمها ولا يخص، فلم يُشترط فيها عدد ولا ذكورية، بل اشترط فيها ما يكون مغلبًا على الظن صدق المخبر وهو العدالة المانعة من الكذب واليقظة المانعة من غلبة السهو والتخليط. ولما كان النساء ناقصات عقل ودين لم يكن من أهل الشهادة، فإذا دعت الحاجة إلى ذلك قويت المرأة بمثلها، لأنه حينئذ أبعد من سهوها وغلطها لتذكير صاحبتها لها، وأما اشتراط الحرية ففي غاية البعد ولا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع، وقد حكى أحمد عن أنس بن مالك أنه قال: ما علمت أحدًا رد شهادة العبد والله تعالى يقبل شهادته على الأمم يوم القيامة. فكيف لا يقبل شهادته على نظيره على المكلفين ويقبل شهادته على الرسول صلى الله عليه وسلم في الرواية فكيف لا يقبل على رجل في درهم ولا ينتقض هذا بالمرأة لأنها تقبل شهادتها مع مثلها لما ذكرناه، والمانع من قبول شهادتها وحدها منتف في العبد.
وعلى هذه القاعدة مسائل:
أحدها الإخبار عن رؤية هلال رمضان من اكتفى فيه بالواحد جعله رواية لعمومه للمكلفين، فهو كالأذان. ومن اشترط فيه العدد ألحقه بالشهادة لأنه لا يعم الأعصار ولا الأمصار، بل يخص تلك السنة وذلك المصر في أحد القولين وهذا ينتقض بالأذان نقضًا لا محيص عنه. وثانيها الإخبار بالنسب بالقافة فمن حيث أنه خبر جزئي عن شخص جزئي يخص ولا يعم جرى مجرى الشهادة، ومن جعله كالرواية غلط فلا مدخل لها هنا، بل الصواب، أن يقال من حيث هو منتصب للناس انتصابًا عامًا يستند قوله إلى أمر يختص به دونهم من الأدلة والعلامات جرى مجرى الحاكم. فقوله: حكم لا رواية.
ومن هذا الجرح للمحدث والشاهد هل يكتفى فيه بواحد إجراء له مجرى الحكم أو لا بد من اثنين؟ إجراء له مجرى الشهادة على الخلاف، وأما أن يجري مجرى الرواية فغير صحيح وأما للرواية والجرح. وإنما هو يجرحه باجتهاده لا بما يرويه عن غيره.
ومنها الترجمة للفتوى والخط والشهادة وغيرها. هل يشترط فيها التعدد؟ مبني على هذا ولكن بناؤه على الرواية والشهادة صحيح، ولا مدخل للحكم هنا.
ومنها التقويم للسلع من اشترط العدد رآه شهادة ومن لم يشترطه أجراه مجرى الحكم لا الرواية.
ومنها القاسم هل يشترط تعدده على هذه القاعدة والصحيح الاكتفاء بالواحد لقصة عبد الله بن رواحة.
ومنها تسبيح المصلي بالإمام هل يشترط أن يكون المسبح اثنين فيه قولان مبنيان على هذه القاعدة.
ومنها المخبر عن نجاسة الماء هل يشترط تعدده فيه قولان.
ومنها الخارص والصحيح في هذا كله الاكتفاء بالواحد كالمؤذن وكالمخبر بالقبلة، وأما تسبيح المأموم بإمامه ففيه نظر، وفيها المفتي يقبل واحدًا اتفاقًا.
ومنها الإخبار عن قدم العيب وحدوثه عند التنازع. والصحيح الاكتفاء فيه بالواحد كالتقويم والقائف. وقالت المالكية: لا بد من اثنين ثم تناقضوا. فقالوا: إذا لم يوجد مسلم قبل من أهل الذمة.]بدائع الفوائد-1.(متوفر بوكيبيديا)