22 June, 2011

اكتبني لأفهمـ ـكـ

ـــ ماذا تكتب؟
ـــ ما أحاول أن أفهم.
ـــ متى تفهم؟
ـــ غالباً عندما أكتب.
ـــ وماذا تفهم عندما تفهم؟
ـــ أن الكتابة هي أكرم أشكال العناق.
ـــ اعترفْ بأنّ ما يحتاج فعله إلى دقائق عند سواك يحتاج عندك إلى سنين. اعترفْ وقل لي السبب.
ـــ الخوف من أن تذهب الروح مع الفعل. الحياة هي مجموع ما نؤجّل.
ـــ ما هذه النظريّة السخيفة. الحياة أفعالنا وليست العكس. العكس هو النوم عن الحياة.
ـــ هذا ما تظنّه، وبعد أن يمضي الوقت تجد أن الحياة ليست ما فَعَلْنا بل ما لم نفعل، وآثارنا الممحوَّة هي التي تنفخ الروح في آثارنا الظاهرة.
ـــ ماذا يقول لك ابن السنين السبع الناظر إليك بعينيه اللتين تأكلان وجهه؟
ـــ يقول لي بأبلغ ما يكون ما سوف يجتهد لقوله كبيراً لسائر الكبار ولن يستطيع.
ـــ مثلاً؟
ـــ أَنّه وَجَد الأشياء قبل أن يستيقظ ويبدأ في البحث عنها.

 
ـــ لم أتوصل بعد إلى إيجاد الرابط بينك كشخص يوميّ وبين كتاباتك.
ـــ الشخصان اختراع مَنْ يراهما.
ـــ أَمَا من حقيقة في هذين الشخصين؟
ـــ عبوديّة التظاهر عند الأوّل وحريّة التخفّي وراء زعم التعرّي، عند الثاني.

 
ـــ هؤلاء الناس الذين يَعْبرون الطريق...
ـــ هؤلاء الناس الذين يستثيرون غيرتنا لأنّنا نظنّهم أفضل منّا حالاً.
ـــ أليسوا فعلاً كذلك؟
ـــ هم كذلك ما دمنا نشاهدهم لحظتين، قبل دخولهم وراء الجدار، هناك حيث الأشياء مرعبة، وحيث الأسوأ في هذه المرعبات أنَّ رأسها فراغ وذيلها وَجَع.
ـــ أما من مُفْرحات؟
ـــ كثيرة، أوّلها الهواء وآخرها الهواء وبينهما استعداد الآخرين لتقديرك أكثر ممّا تستحقّ.
ـــ والطعام والشراب والصحبة...
ـــ ... واللهو والحلم والأيّام المتثائبة في رتابة الأمان.
ـــ رتابة!؟
ـــ تصبح منتهى الطموح.
 
 
ـــ نتابع حياتنا إكراماً لصور البداية. تكاوين المَطالع هي الأساس، وما يليها يحاول أن يكون أو أن لا يكون خيانة لها.
ـــ شيءٌ من هذا، ولكنْ ليس حتماً ولا دائماً، فأحياناً نتابع حياتنا إدماناً أو تطلّعاً إلى مجاهل.
ـــ ونصادف مجاهل؟
ـــ نصادف ما نحسبه مجاهل.
ـــ أليس كل هذا لَغْواً؟
ـــ بالطبع.
ـــ وماذا عن الصمت؟
ـــ صمتُ الرجل مخيف.
ـــ والمرأة؟
ـــ يجلس صَمْتُها أمام جسدها كما يجلس أبو الهول أمام أبواب الآلهة.

 
ـــ سنكتب ما حكيناه؟ وماذا نكتب بعده؟
ـــ نكتم سرّاً آخر.


أنسي الحاج

09 June, 2011

في كَبَدْ



في يومٍ ما؛ بينما أعود من العمل مع صديقتي في باص من دمنهور للاسكندرية، والمسافة تقريبًا ساعة إلا ربعًا، إذ بي أجد امرأة واقفة بجواري، غمزت لي صديقتي أن أعْرِضَ عليها أن تجلس، فقلتُ لها: لكنّني لا أريد أن أقف، الباص كان متوقفًا وهي ركبت وهي تعلم أنَّه لا مكان فارغ لتجلس به، وقررتْ أنْ تبقى!
قالت لي: أخبريها أنتِ ثم أنا سأقوم لها!

قلتُ لها: حسنًا ما دام الأمر كذلك!

وعرضتُ على المرأة أن تأتي لتجلس، فرفَضَتْ فلم أكرّر العرض. فالتفتُّ فإذا بصديقتي "تشيط" حنقا عليّ، أنْ لماذا لم ألحّ في طلبي؟ فبالتأكيد ستقول لا في المرّة الأولى، لأنّها مُحْرَجَة، وعليّ أن ألحّ مرات عديدة كي أجبرها على الموافقة!

وهنا قررتُ أنْ ألعب مع صديقتي الطيّبَة لعبة.. (كنتُ ضحيتها من قِبَلِ أحد الأصدقاء قَبْلًا).

بدأت أسألها لماذا تريد – حقًا- وبهذا الإصرار أن تقوم للمرأة؟ ولماذا يضيرها سكوتي من أوّل مرة حقًا؟ فقالت أنّ ضميرها يؤنبها لأنّ الناس غالبًا ترفض ظاهرًا لأنها تريد أن تشعر حقًا أنّك تريد أن تفعل هذا الشيء.. أيّ أن إلحاحي في العرض معناه أنني حقًا وصدقًا وقلبًا وقالبًا أريد لها أن تجلس ويدلّ على رضاي التامّ الكامل الشامل بأنْ أبقى واقفة!
فقلتُ لصديقتي أنّها تريد أن تفعل ذلك فقط لإرضاء ضميرها لا لكي تجلس المرأة! وأنّها في عُمقِ نفسها تريد أنْ تشعر بالرّضا عن نفسِها لذلك قامت بالعرض بالأساس، أيّ أنَّ الأمر كلّه أنانية، وعندما رفضتِ المرأة فإنّ ذلك يؤثّر سلبًا في هذه النقطة لديها فلذلك تشعر بالأسى!

ولا أريد أنْ أقول أنني اتُهِمْتُ بعدها بالجنون والأنانية والتفكير الماديّ البحث والبُعد عن الإنسانية!


يقول يحيى: "حين يقول شخص ما: أحب ذاك الشخص. أو: هذا الشخص صديقي. أو إلى غير ذلك، يمكن وضع ترجمة طويلة لما يعنيه بالتالي: هذا الإنسان يمنحني بعض ما ينقصني، وهو بهذا يغنيني عن هذا النقص، مما يجعلني بحاجة له كي لا أعود إلى النقص، واحتياجي له كي أستفيد منه يقابله بعض المَنْحِ مني له كي يستفيد مني أيضًا، و إلا فلن يبقى، عملية الاستفادة والمَنْحِ تلك نسميها باسم شعور ما." !

يُفسّر المسيري ذلك بأنّ العلاقات تنقسم إلى تعاقدية وتراحمية، التعاقدية ليست شرطًا أن تحتوي عقودًا كما يوحي اسمها، إنّما هي تلك التي يتفق طرفاها – وأحيانًا دون كلام – بتبادل الخدمات، والتراحمية هي التي تكون باختصار "خالصةً لوجهِ الله"؛ فلا ينتظر الشخص الذي يقوم بعلاقة تراحميّة أنْ ينال مقابلا..
وكان يصف الزواج بأنَّه علاقة تعاقدية مبنيَّة على التراحم. ويقول أنَّ هذا أفضل تفسير توصَّل إليه، بعد حيرته طويلًا في استيعاب ميكانيزم العلاقة الزوجية، وهل هي معتمدة على العاطفة أم على العقل.
كنتُ أتسلّى بتفنيد العلاقات عندما قرأتُ تفسير المسيري لها، والذي أجابَ على حيرةٍ عندي كانت تتعلّق بالإخلاص، كنتُ على شفا إنكارِ شيءٍ اسمه "عمل شيء ما لوجه الله" -  ليس اقتناعًا بـرأي "جوي تريبياني"! - خَفف حديثه كثيرًا من كُفْري هذا وإنْ لم يمحه بعد..

لا أذكر من قال: "ليستِ الأنانية أنْ تعيش كما تشاء، بل الأنانية أنْ تريد أنْ يعيش الناسُ كما تشاء." ربّما الرافعي، وهو محقّ تمامًا، تذكرتُ فورَ أن قرأتَها أنَّ أمّي كانت تتهمّني بالأنانيّة لأنني أهتمّ بنفسي وأعيش حياتي كما أحِبّ ولا آبَه كيف سيفكّر فيّ النّاس ولا أهتمّ لأقوالهم وآرائهم فيّ، أدلّل نفسي تمامًا وهذا ما تراه هي أنانية، أنني لا أفني ذاتي في خدمة الآخرين كما تفعل هي! وأنا أرى أنّها تفعل ذلك فقط لتشعر بالرّضا الذاتي! – الإنكار إيّاه – بينما أنا أنال الرِّضا الذاتي من مصادر أخرى. – تمويل مَحلِّي! –

وبين الشَكِّ واليقين؛ يكون الإيمان. أو كما قال الرسول عليه السلام لأصحابه عندما سألوه أنَّ نفوسهم تحدّثهم بما لا يمكن النطق به أبدًا.. "ذلك الإيمان".


 الحل كما يقول يحيى: "وبالرغم من أننا خلال عملية تطورنا تلك نشأ بنا مفهوم احتقار التفكير النفعي، إلا أنه لا داع للخجل من كون جميع روابطنا الاجتماعية قائمة على النفع فتلك طبيعتنا، نحن لسنا آلهة، والنقص متأصل بنا إلى حد لا يمكن انتزاعه، هذا النقص الذي في ظلاله نضطر أن نكون سلالة نفعية اجتماعيًا."